مقدمة الطبعة الثانية
بـســـــــــم الله الرحمن الرحيـــــم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ابتع هداه :
أما بعد:
فهذه هي الطبعة الثانبة لكتابي (( بين الإمامين مسلم والدارقطني )) الذي تعقبت به انتقاد الإمام الحافظ أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني للإمام الحافظ الكبير مسلم بن الحجاج القشيري في بعض الأحاديث من صحيحه.
وقد استجاد تعقباتي هذه في كتابي بين الإمامين كثير من المعنيين بعلوم السنة ممن لهم عناية ومعرفة بالنقد، وقد طلب مني عدد ممن يهتم بطبع ونشر كتب السنة وعلومها إعادة طبع هذا الكتاب من منذ سنوات، فكنت أمتنع من الإذن لهم بطبعه على أمل أن أعيد النظر في الكتاب وأقوم بٍإصلاح وتصحيح ما لا يخلو منه عمل البشر من نقص وخطأ، ولا سيما أحكام على أحاديث معينة بنيتُ تلك الأحكام على قول القاضي عياض –رحمه الله- في مقدمة كتابه ((إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم)):
” وكذلك علل الحديث التي ذكر ووعد بها قد جاء بها في مواضعها من الأبواب، من اختلافهم في الأسانيد كالإرسال والإسناد والزيادة والنقص وذكر تصاحيف المصحفين”.
فبَنَيتُ على قوله هذا تعليل بعض الأحاديث، ومع ذلك فقد كنت أخالف القاضي عياضاً في تعليل بعض الأحاديث التي كان يعلها بناء على قاعدته هذه؛ لأنه كان يساورني الشك والتردد في صحتها في بعض الأحيان، وكان هذا التردد واضحاً في عملي في كتابي بين الإمامين، ولقد نقل العلامة النووي –رحمه الله- هذه القاعدة عن القاضي عياض وكان الغالب عليه إلى حد بعيد – في شرحه لصحيح مسلم – مخالفتها؛ إذ قلما كان يوافق الدارقطني في تتبعه للإمام مسلم بل يخالفه، ولو عمل بقاعدة القاضي عياض لما ناقش الإمام الدارقطني في شيء من تتبعه.
ولمّا تعلق بعض أهل الأهواء بقاعدة القاضي عياض – رحمه الله – وغلا في تعلقه بها، وبنى عليها وعلى غيرها من التهاويل ما تقشعر منه جلود المؤمنين وتصك له أسماعهم، شمرت ساعد الجد لدراسة منهج الإمام مسلم القولي الذي صرّح به في مقدمته من اشتراطه للصحة وتأكيده لذلك، ومنهجه العملي التطبيقي في كتابه الصحيح، وبينت ذلك بياناً شافياً في كتابين:
أحدهما: ((منهج الإمام مسلم في ترتيب كتابه الصحيح ودحض شبهات حوله)).
وثانيهما: ((كتاب التنكيل بما في توضيح المليباري من الأباطيل)).
وقبلهما بحث مهمّ في هذا الصدد.
وكلها ردود على المسمى بـ (حمزة المليباري) الذي جنّد نفسه لنسج الخيالات والأباطيل حول هذا الكتاب العظيم ((صحيح مسلم)) مازجاً أباطيله – لتروج على الرعاع – بالمدح للإمام مسلم ولمنهجه الذي اخترعه لهذا الإمام.
والذي أعتقده في القاضي عياض – رحمه الله – أنّه لو رأى ما بناه هذا الرجل على قاعدته من الأباطيل والأراجيف لرجع عنها ولتبرأ منها وكذلك غيره.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في كتابه ((بيان الدليل على بطلان التحليل))( 1):
((فرب قاعدة لو علم صاحبها ما تفضي إليه لم يقلها)).
وقال –رحمه الله – في كتابه المذكور:
((فما أكثر ما يحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له وكثير من المسائل يخرجها بعض الأتباع على قاعدة (مسوغة)( 2) مع أنّ ذلك الإمام لو رأى أنّها تفضي إلى ذلك لما التزمها، والشاهد يرى ما لم ير الغائب، ومن علم فقه الأئمة وورعهم علم أنّهم لو رأوا هذه الحيل وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطع بتحريمها من لم يقطع به أولاً )) ( 3).
وأجزم بأنّ الإمام مسلماً والقاضي عياضاً وكل من يحترم سنَّة رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، وهذا الكتاب العظيم ((صحيح مسلم)) لـو شاهدوا ما نسجه المليباري من الحيل والأباطيل لرموه جميعاً عن قوس واحدة بأنَّه مغرض ومبطل ولأدانوه بما يستحق.
إنَّ الرجوع عن الخطأ من سمات المنصفين المتواضعين لله والنـاصحين لله ولكتابه ورسوله وللمؤمنين خاصتهم وعامتهم، وإنّي لأرجو الله أن أكون منهم.
وإنّ التمادي في الخطأ والباطل من سمات أهل الأهواء والكبر الذي عرّفه رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – بقوله: ((الكبر غمط النَّاس ورد الحق)).
ولقد حقق الله أمنيتي وأملي بأن مدّ في عمري حتى وفقني للقيام بهذا التصحيح ووضع الحق في نصابه.
وإني لأرجو أن يثلج الله به صدور طلاب الحق ومحبي سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومعظميها.
كما أرجوه أن يوفقني وسائر المسلمين لما يحبه ويرضاه من القيام بكل ما أوجبه وشرعه من عقائد وشرائع وأعمال إنّ ربي لسميع الدعاء.
وكان الفراغ من إعادة النظر في هذا الكتاب في الحادي والعشرين من شهر رجب عام تسعة عشر وأربعمائة بعد الألف من أعوام الهجرة النبوية.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وكتبه
راجي رضى ربه وعفوه وغفرانه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1 ) (ص:215).
( 2) قال المحقق في الحاشية: ” في الأصل و (ق): متبوعة”.
( 3) (ص:207-208).