“تنـزيه الشريعة الإسلامية من فتنة الاختلاط”
الحلقة الثانية
وفيها بيان فساد منهج الكاتب في الاستدلال بالأحاديث النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد :
12- فقال الكاتب: ” وقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك على سعد بن عبادة -رضي الله عنه- حين قال: «والله لأضربنه بالسيف غير مصفح»، في شأن من وجد مع امرأته رجلا آخر، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- حين رأى أصحابه تعجبوا من غيرة سعد: «أتعجبون من غيرة سعد، والله إني لأغير من سعد، والله أغير منا، ولذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن»”.
أقول:
أ- لفظ الحديث في البخاري في “كتاب النكاح”: “وقال وَرَّادٌ: عن الْمُغِيرَةِ: قال سَعْدُ بن عُبَادَةَ: لو رأيت رَجُلًا مع امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غير مُصْفَحٍ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : أَتَعْجَبُونَ من غَيْرَةِ سَعْدٍ لَأَنَا أَغْيَرُ منه وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي”.
ثم أورد بعده حديث ابن مسعود حديث (5220) عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “ما من أَحَدٍ أَغْيَرُ من اللَّهِ، من أَجْلِ ذلك حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، وما أَحَدٌ أَحَبَّ إليه الْمَدْحُ من اللَّهِ”.
وفي صحيح مسلم في “اللعان” حديث (1498) عن أبي هريرة من طرق، قال سَعْدُ ابن عُبَادَةَ: يا رَسُولَ اللَّهِ لو وَجَدْتُ مع أَهْلِي رَجُلًا لم أَمَسَّهُ حتى آتى بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ؟ قال رسول اللَّهِ-صلى الله عليه وسلم- : نعم، قال:كَلَّا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إن كنت لَأُعَاجِلُهُ بِالسَّيْفِ قبل ذلك،قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : اسْمَعُوا إلى ما يقول سَيِّدُكُمْ إنه لَغَيُورٌ وأنا أَغْيَرُ منه وَاللَّهُ أَغْيَرُ مني”.
وروى مسلم في “صحيحه” بعد هذا الحديث من طريق وَرَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ عن الْمُغِيرَةِ بن شُعْبَةَ قال: قال سَعْدُ بن عُبَادَةَ: “لو رأيت رَجُلًا مع امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عنه، فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فقال: أَتَعْجَبُونَ من غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ فَوَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ منه، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مني، من أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ. ولا شَخْصَ أَغْيَرُ من اللَّهِ”([1]).
ثم أقول: إن الغيرة محمودة، ولم ينكرها رسول الله –صلى الله عليه وسلم- على سعد، إنما أكد هذه الصفة الحميدة بقوله: ” والله لَأَنَا أَغْيَرُ منه وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ”.
فالله يغار ومن أجل هذه الصفة الكاملة الحميدة حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- غيور وأصحابه غيورون، ومنهم عمر بن الخطاب، وهو معروف بهذا، قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : “بَيْنَمَا أنا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي في الْجَنَّةِ فإذا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إلى جَانِبِ قَصْرٍ، فقلت: لِمَنْ هذا؟ قالوا: هذا لِعُمَرَ،فَذَكَرْتُ غيرته، فَوَلَّيْتُ مُدْبِرًا، فَبَكَى عُمَرُ وهو في الْمَجْلِسِ، ثُمَّ قال: أو عليك يا رَسُولَ اللَّهِ أَغَارُ “([2]).
والزبير غيور، قالت زوجته أسماء في قصة لها طويلة منها:” فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَمَعَهُ نَفَرٌ من الْأَنْصَارِ فَدَعَانِي، ثُمَّ قال: أخ أخ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مع الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ، وكان أَغْيَرَ الناس، فَعَرَفَ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنِّي قد اسْتَحْيَيْتُ، فَمَضَى…”([3]).
فالغيرة على محارم الله محمودة، وغيرة المؤمنين على زوجاتهم ومحارمهم ونساء المؤمنين محمودة.
لكن لاحتمال أن يتذرع بعض الناس إلى قتل خصمه بدعوى أنه وجده مع امرأته صمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أنه لا بد من شهادة أربعة على وقوع الزنى بالفعل، وإلا فأمامه الحد سداً لذريعة قتل النفوس بالدعاوى.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- في “روضة المحبين” (ص273):
“ومنها غيرته لمحبوبه وعلى محبوبه فالغيرة له أن يكره ما يكره ويغار إذا عصي محبوبه وانتهك حقه وضيع أمره فهذه غيرة المحب حقا والدين كله تحت هذه الغيرة
فأقوى الناس دينا أعظمهم غيرة وقد قال النبي في الحديث الصحيح أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني فمحب الله ورسوله يغار لله ورسوله على قدر محبته وإجلاله وإذا خلا قلبه من الغيرة لله ولرسوله فهو من المحبة أخلى وإن زعم أنه من المحبين فكذب من ادعى محبة محبوب من الناس وهو يرى غيره ينتهك حرمة محبوبه ويسعى في أذاه ومساخطه ويستهين بحقه ويستخف بأمره وهو لا يغار لذلك بل قلبه بارد فكيف يصح لعبد أن يدعي محبة الله وهو لا يغار لمحارمه إذا انتهكت ولا لحقوقه إذا ضيعت وأقل الأقسام أن يغار له من نفسه وهواه وشيطانه فيغار لمحبوبه من تفريطه في حقه وارتكابه لمعصيته
وإذا ترحلت هذه الغيرة من القلب ترحلت منه المحبة بل ترحل منه الدين وإن بقيت فيه آثاره وهذه الغيرة هي أصل الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي الحاملة على ذلك فإن خلت من القلب لم يجاهد ولم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر فإنه إنما يأتي بذلك غيرة منه لربه ولذلك جعل الله سبحانه وتعالى علامة محبته ومحبوبيته الجهاد فقال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم)” اهـ.
فأبعد الناس عن الغيرة المحمودة هم دعاة الاختلاط.
والذين تستنكر عليهم الغيرة التي ترى أنهم قد تجاوزوا فيها الحد، أنت المخطئ في هذا الاستنكار.
ب- وقولك: “ويجب على كل مسلم منصف عاقل لزوم أحكام الشرع دون زيادة أو نقص، فلا يجعل من حماسته وغيرته مبررا للتعقب على أحكام الشرع، وقد أنكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك على سعد بن عبادة رضي الله عنه حين قال: «والله لأضربنه بالسيف غير مصفح»”.
فجعلتهم، وهذا الصحابي الجليل ممن يتعقب أحكام الشرع، فهذا قول عظيم، فالعلماء ولله الحمد لم يتعقبوا شرع الله ورسوله وإنما ينطلقون من شرع الله، ويحبون أن ينقاد الناس كلهم لشرع الله، وأن يبتعدوا عن مساخط الله، ومنها الفواحش التي حرّمها الله غيرة منه سبحانه وتعالى.
وليتك استفدت من قصة سعد –رضي الله عنه- والتي فيها قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “والله لَأَنَا أَغْيَرُ منه وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ”.
والاختلاط الذي تدّعي أنه من شرع الله من أعظم الدواعي إلى الفواحش.
قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير قول الله تعالى: (وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ):
“(وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ) وهي:الذنوب العظام المستفحشة، (مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) أي: لا تقربوا الظاهر منها والخفي، أو المتعلق منها بالظاهر، والمتعلق بالقلب والباطن.
والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها”، تفسير السعدي (ص279-280).
وقال –رحمه الله- في تفسير قوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا ):
“والنهي عن قربانه أبلغ من النهي عن مجرد فعله لأن ذلك يشمل النهي عن جميع مقدماته ودواعيه فإن: “من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه”، خصوصاً هذا الأمر الذي في كثير من النفوس أقوى داع إليه” ا.هـ.
13- قال الكاتب: ” لقد ارتفع ضجيج المانعين، وعلت أصواتهم في قضية «الاختلاط» مع أن الحجة مع من أجازه بأدلة صريحة صحيحة، فضلا عن استصحاب البراءة الأصلية، وليس مع المانعين دليل إلا ضعيف الإسناد، أو صحيح دلالته عليهم لا لهم.
بالأدلة والنصوص
ونشير هنا إلى أهمية سياق الأدلة الصحيحة الصريحة، وسياق ما احتج به المانعون؛ ليبصر الحق كل منصف دون تعسف أو شطط.
عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: خرجت سودة لحاجتها ليلا بعدما ضرب عليهن الحجاب، قالت: وكانت امرأة تفرع النساء، جسيمة، فوافقها عمر فأبصرها، فناداها: يا سودة إنك والله ما تخفين علينا، إذا خرجت فانظري كيف تخرجين، أو كيف تصنعين؟ فانكفت، فرجعت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإنه ليتعشى، فأخبرته بما قال لها عمر، وإن في يده لعرقا، فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العرق لفي يده، فقال: (لقد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن).
قلت: أخرجه البخاري ومسلم، وفيه الإذن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج لحاجتهن وغيرهن في ذلك من باب أولى”.
أقول:
أ- “إِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً”، قال ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- روي ذلك في البخاري ومسلم.
وليس من المنكر أن يرتفع صوت الحق، ولا سيما في قضية مثل قضية الاختلاط، الذي علت به أصوات أهل الباطل في الصحف والفضائيات وغيرها.
ب- قوله: ” مع أن الحجة مع من أجازه بأدلة صريحة صحيحة، فضلا عن استصحاب البراءة الأصلية، وليس مع المانعين دليل إلا ضعيف الإسناد، أو صحيح دلالته عليهم لا لهم”.
أقول: “رمتني بدائها وانسلت”، فليس مع دعاة الاختلاط إلا تقليد أعداء الإسلام وإلا تحريف النصوص الصحيحة الصريحة وتحميلها ما لا تحتمل، أما المانعون منه فمعهم كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وأصول الشريعة وقواعدها المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
أما استصحاب البراءة الأصلية فقد سلف الكلام عليه.
جـ- قوله: ” ونشير هنا إلى أهمية سياق الأدلة الصحيحة الصريحة، وسياق ما احتج به المانعون؛ ليبصر الحق كل منصف دون تعسف أو شطط”.
أقول: سيرى القارئ زيف هذه الدعاوى المضخمة، وسيرى المنصفون مصير استدلاله.
د-قوله: “عن عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: خرجت سودة لحاجتها ليلا….إلخ.
أقول:
1-أنت سقت هذا الحديث في طليعة الأحاديث التي تدّعي أنها صريحة في الدلالة على الاختلاط الذي تدعو ويدعو إليه دعاة الاختلاط، ثم لما لم تجد فيه ما تدعيه لجأت إلى قولك:
” وفيه الإذن لنساء النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج لحاجتهن وغيرهن في ذلك من باب أولى”.
فلماذا أبقيته في طليعة أدلتك لا سيما والعلماء الذين تعارضهم في منع الاختلاط لا يقولون بمنع النساء من الخروج لحاجتهن؟
ثم في الحديث دلالة على بطلان قولك: إن الاختلاط من هدي المجتمع النبوي([4])، فهذه سودة بل زوجات النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل فرض الحجاب وبعده لا يخرجن لحاجتهن إلا ليلاً.
2-إنها خرجت منفردة وفي ظلمة الليل، وهذا يدل على غاية الاحتشام والشرف.
3-ومع ذلك أنكر عمر –رضي الله عنه- عليها هذا الخروج البالغ النهاية في التستر والحشمة، فهذا من أقوى الأدلة وأوضحها على براءة الصحابة مما تلصقه بهم، فلماذا تعاملهم بضد ما هم عليه، والأمانة العلمية تقتضي منك أن تستخرج هذه الدلالات التي انطوى عليها هذا الحديث، فأين العقل والإنصاف؟
14- قال الكاتب: “وعن سهل بن سعد قال: لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بلت تمرات في تور من حجارة من الليل، فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته له فسقته تتحفه بذلك.
قلت: أخرجه البخاري، وقد بوب عليه البخاري في صحيحه «باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس» قال الحافظ ابن حجر: وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه.
قلت: ومن لوازم ذلك نظر المرأة للرجال ومخالطتهم”.
أقول: لقد قال الحافظ في “الفتح” (9/160) في شرح هذا الحديث:
“وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها، ومن يدعوه، ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك وشرب ما لا يسكر في الوليمة، وفيه إيثار كبير القوم في الوليمة بشيء دون من معه”.
فلماذا حذف الكاتب قول الحافظ: “ولا يخفى أن محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر”.
فهذان الشرطان اللذان ذكرهما الحافظ وحذفهما الكاتب مأخوذان من أدلة الحجاب ووجوب غض البصر.
وأزيد أن هذه المناسبة يحتمل احتمالاً قوياً أن تكون قبل نزول فرض الحجاب، فإن كانت بعد الحجاب فالأمر كما قال الحافظ: ” إن محل ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر”.
فقوله: ” قلت: ومن لوازم ذلك نظر المرأة للرجال ومخالطتهم”.
فهذا القول مضاد للأدلة الشرعية التي توجب غض البصر، ومع ذلك فليس من لوازم مثل هذه الحالة النظر والاختلاط، وما حمله على هذا القول إلا مذهبه الداعي إلى الاختلاط فليس من الممتنع ولا من الصعب أن تقدم المرأة العفيفة الصالحة طعام ضيوف زوجها وهي غاضة لبصرها مبتعدة عن الاختلاط.
ولا يصعب على المؤمن الصادق غض بصره امتثالاً لأوامر الله ورسوله وما كلف الله عباده إلا بما يطيقون، فسقط استدلاله بهذا الحديث على الاختلاط الذي يدعو إليه.
15- قال الكاتب: ” وعن سهل بن سعد قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا، فكانت إذا كان يوم الجمعة تنـزع أصول السلق فتجعله في قدر ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السلق عرقه، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا فنلعقه، وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك.
قلت: أخرجه البخاري، وفيه ما في الحديث السابق، وقد بوب عليه البخاري في صحيحه «باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال»، يعني به جواز ذلك، وفيه جواز مخالطة الرجال والنظر إليهم؛ فإنها كانت تقرب الطعام إليهم، وتخدمهم في دارها، كما يفيده الحديث”.
أقول:
1- إن سهل بن سعد كان صغيراً في هذا الوقت الذي كانوا يزورون فيه العجوز، ولا يبعد أن يكون الذين معه من الصبيان أصغر منه، وللعلم فإنَّ ولادة سهل كانت قبل الهجرة بخمس سنوات.
2- هذه المرأة كانت عجوزاً.
3- لا يبعد أن يكون هؤلاء الصبيان من أقارب هذه العجوز، والدليل عليه قوله كانت لنا عجوز”، فلا يبعد أن تكون جدة لبعضهم وعمة لبعضهم وخالة لبعضهم.
4- مما يؤخذ على الكاتب أنه قد تهرب من ذكر قول سهل –رضي الله عنه-: “كانت لنا عجوز”، فلم يذكره، الأمر الذي يدل أنه كان بينهم وبينها محرمية.
فقد أورد البخاري هذا الحديث في عدة مواضع:
1- تحت باب قول الله: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله)، رقم (938)، بدون قوله: “كانت لنا عجوز”.
2- في “المزارعة” باب ما جاء في الغرس، حديث (2349)، وفيه: “كانت لنا عجوز”.
3- في كتاب “الأطعمة”، باب السلق والشعير حديث (5403)، وفيه: “كانت لنا عجوز”.
4- في كتاب “الاستئذان” باب “تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال”، حديث (6248) وفيه هذه الجملة.
أتدري ماذا صنع هذا الكاتب؟
لقد رأى أن قول سهل بن سعد –رضي الله عنه-: “كانت لنا عجوز”، سيعكر على دعواه في جواز الاختلاط.
فَلِكَي يتخلص من هذا الأمر عمل ما يأتي:
أخذ متن هذا الحديث الذي أورده البخاري في “كتاب الجمعة”، الذي لا توجد فيه هذه الجملة: “كانت لنا عجوز”، وتخطى به موضعين آخرين إلى الموضع الرابع الذي فيه العنوان الذي يناسب في نظره دعوته إلى الاختلاط، هذا العنوان هو “باب تسليم الرجال على النساء والنساء على الرجال”، فأخذه وركبه على المتن الخالي من هذه الجملة: “كانت لنا عجوز”، فوضع المتن في غير الموضع الذي وضعه فيه البخاري، ووضع العنوان في غير موضعه الذي وضعه فيه البخاري [وفقه البخاري كما يقال في تراجمه] تهرباً من هذه الجملة التي تخالف مذهبه، وتبطل احتجاجه بهذا الحديث على جواز مخالطة الرجال والنظر إليهم، يريد بذلك اختلاط الرجال بالنساء الأجانب وجواز النظر إليهن ونظر النساء إلى الرجال مخالفاً بذلك النصوص القرآنية التي تأمر بالحجاب وغض البصر والأحاديث الأخرى في هذا المعنى.
وعلى كل فقد سقط احتجاجه بهذا الحديث مع تصرفه الغريب في نقله.
16- قال الكاتب: ” وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رجلا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فبعث إلى نسائه، فقلن: ما معنا إلا الماء، فقال -صلى الله عليه وسلم-: من يضم أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقالت ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء، فهيأت طعامها، وأصبحت سراجها فأطفأته، فجعلا يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: ضحك الله الليلة، وعجب من فعالكما، فأنزل الله (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون).
قلت: أخرجه البخاري، وفيه جواز الاختلاط، ووقوعه بإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم- كافٍ في جوازه”.
أقول : ليس في الحديث ما يدل على الاختلاط أبداً، وحاشا رسول الله أن يقر على مثل الاختلاط الذي تدعو إليه.
وأسألك هل جلس هذا الرجل وزوجته مع الضيف على مائدة واحدة حتى تدّعي هذه الدعوى ؟
لقد كان هذا الضيف بعيداً عن المرأة، ولعله لم يرها، فإن كان بعد الحجاب ، فقد أمره الله بغض بصره، فأثبت أنه كان ينظر إليها فضلاً عن اختلاطهما، وأين هي صراحة هذا الحديث في جواز الاختلاط ؟
لقد نهينا عن التكلف حتى للحق، فكيف بالتكلف لنصرة الباطل ؟
ولقد خالفت منهج العلماء وطلاب الحق في الاستضاءة بالنصوص النبوية.
وضيّعت دلالة هذا الحديث على فضيلة الأنصار التي أشاد الله بها وبهم في قوله: “وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِى صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)،[الحشر :( 9 )].
ولقد بوّب البخاري على هذا الحديث في موضعين من صحيحه بقوله: باب (ويؤثرون على أنفسهم) لإثبات هذه الفضيلة العظيمة للأنصار، فكم هو الفرق بينك وبين أهل العلم والتقى في التعامل مع أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟
17- قال الكاتب: ” وعن عائشة أنها قالت: «لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما، فقلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟، ومعنى «كيف تجدك» أي كيف تجد نفسك، كما نقول نحن: كيف صحتك؟
قالت عائشة: فجئت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبرته، فقال: «اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد».
قلت: أخرجه البخاري، وبوب عليه بقوله «باب عيادة النساء للرجال» قال: وعادت أم الدرداء رجلا من أهل المسجد من الأنصار.
قلت: وهذا واضح أيضا في وقوع الاختلاط في عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أعظم الناس تقوى وفهما لأحكام التشريع”.
أقول: إن عيادة عائشة -رضي الله عنها- لأبيها وبلال –رضي الله عنهما- كانت في أول قدوم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المدينة هو وأبو بكر، وذلك قبل نزول الحجاب بسنوات وفي صغر عائشة –رضي الله عنها-، وهذا لا يخفى على صغار طلبة العلم، ثم أين هو الاختلاط في هذه الحالة التي روتها عائشة وهي إنما زارت أباها ومولى أبيها.
فقولك: “وهذا واضح أيضا في وقوع الاختلاط في عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”، أخذاً من هذا الحديث وغيره، قول باطل واضح البطلان.
وقولك: ” وهم أعظم الناس تقوى وفهما لأحكام التشريع”، حق تريد به باطلاً.
أما زيارة أم الدرداء لرجل من الأنصار من أهل المسجد، فلا تثبت هذه الزيارة؛ لأن في إسنادها الحارث بن عبيد الله الأنصاري، قال فيه الحافظ: مقبول؛ لأنه لم يوثقه غير ابن حبان.
وذكره ابن أبي حاتم في “الجرح والتعديل”([5])، ولم يذكر في الرواة عنه إلا الوليد بن مسلم.
وذكره البخاري في “التأريخ”([6]) ولم يذكر في الرواة عنه إلا الوليد بن مسلم.
وذكره المزي في “تهذيب الكمال”([7])، وقال: ” رَوَى عَنه : صدقة بن عَبد الله السمين، والوليد بن مسلم”.
فهو مجهول كما عند ابن أبي حاتم والبخاري، ومستور (أي مجهول الحال) كما عند المزي.
ثم إن أم الدرداء هذه ليست صحابية وإنما هي تابعية، لأنها أم الدرداء الصغرى وهي تابعية وليست صحابية.
فسقط استدلاله على جواز الاختلاط الذي يدعو إليه دعاة الباطل.
18- قال الكاتب: “وعن عائشة -رضي الله عنها-، أنها قالت: «دخل علي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش… الحديث».
قلت: أخرجه البخاري.
وعن الربيع بنت معوذ أنها قالت: دخل علي النبي -صلى الله عليه وسلم- غداة بني علي، فجلس على فراشي كمجلسك مني، وجويريات يضربن بالدف، يندبن من قتل من آبائهن يوم بدر حتى قالت جارية: وفينا نبي يعلم ما في الغد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا تقولي هكذا، وقولي ما كنت تقولين).
قلت: أخرجه البخاري، والجويريات تصغير جارية، وهي الفتية من النساء، والحديث يفيد جواز الاختلاط، وجواز دخول الرجل على المرأة متى كان معها غيرها من النساء، وفيه جواز استماع الرجل لغناء النساء وضربهن بالدف”.
أقول: لا يفيد الحديث جواز الاختلاط الذي يدعو إليه دعاته.
1- أن هؤلاء الجويريات صغيرات السن، ولسن نساء.
2- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يقاس عليه الصحابة فضلاً عن غيرهم، فهو أولاً معصوم من الفتن، ومنها فتنة النساء وغيرها، فكيف يقاس عليه -صلى الله عليه وسلم- دعاة الاختلاط وضعفاء العقول والنفوس من شباب وفتيات هذا العصر.
ومن شاء أن يعرف نتائج الاختلاط المؤلمة فليذهب إلى عواصم دول أوربا وأمريكا ومدارسها وجامعاتها وأسواقها وشوارعها، وليذهب إلى البلدان التي قلدتهم وسارت في ركابهم ليرى ضحايا الاختلاط وما جنى عليهم الاختلاط في أخلاقهم وأعراضهم، والسعيد من وعظ بغيره.
3- أنَّ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خصائص فيما يتعلق بالنظر إلى النساء ودخوله عليهن.
قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في “الفتح” (9/110) في شرح هذا الحديث:
” قال الكرماني: هو محمول على أن ذلك كان من وراء حجاب، أو كان قبل نزول آية الحجاب، أو جاز النظر للحاجة أو عند الأمن من الفتنة اهـ. والأخير هو المعتمد، والذي وضح لنا بالأدلة القوية أن من خصائص النبي-صلى الله عليه وسلم- جواز الخلوة بالأجنبية والنظر إليها، وهو الجواب الصحيح عن قصة أم حرام بنت ملحان في دخوله عليها ونومه عندها وتفليتها رأسه ولم يكن بينهما محرمية ولا زوجية”.
فهذا فقه العلماء للأحاديث النبوية، لا فقه المجازفين.
وقوله: “وفيه جواز استماع الرجل لغناء النساء وضربهن بالدف”.
– أقول : هكذا بهذا الإطلاق، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
والحق أن الأصل في ذلك التحريم على الرجال، أما النساء فيُرخص لهن في الأعراس وفي العيدين فقط، وليس على الإطلاق.
وأقول: لقد ردّ العلامة الألباني -رحمه الله- على من أباح الأغاني وآلات الطرب في كتابه “تحريم آلات الطرب” رداً واسعاً محكماً قائماً على الأدلة والبراهين وأقوال فحول العلماء، فرأيت أن ألخصه، مكتفياً بذكر الأحاديث التي أوردها في هذا الكتاب، ومكتفياً بذكر أحكامه عليها بدون التفاصيل ودون ذكر الطرق، ومن أراد ذلك فعليه بكتابه المذكور.
قال -رحمه الله- :
“الحديث الأول : عن أبي عامر أو أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- :
رواه البخاري قال: وقال هِشَامُ بن عَمَّارٍ حدثنا صَدَقَةُ بن خَالِدٍ حدثنا عبد الرحمن بن يَزِيدَ بن جَابِرٍ حدثنا عَطِيَّةُ بن قَيْسٍ الْكِلَابِيُّ حدثنا عبد الرحمن بن غَنْمٍ الْأَشْعَرِيُّ قال: حدثني أبو عَامِرٍ أو أبو مَالِكٍ الْأَشْعَرِيُّ والله ما كَذَبَنِي سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : لَيَكُونَنَّ من أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إلى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عليهم بِسَارِحَةٍ لهم يَأْتِيهِمْ يَعْنِي الْفَقِيرَ لِحَاجَةٍ فيقولوا ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمْ الله وَيَضَعُ الْعَلَمَ وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ”([8]).
ورواه ابن حبان في صحيحه (8/265) حديث (6719) قال:
“أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَطَّانُ([9]) قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ ابْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ وَأَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيَّانَ: سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ”.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير حديث (3417) قال: حدثنا مُوسَى بن سَهْلٍ الْجَوْنِيُّ الْبَصْرِيُّ ثنا هِشَامُ بن عَمَّارٍ به مثل رواية البخاري، وموسى بن سهل هذا ثقة حافظ.
ورواه الإسماعيلي في “المستخرج على الصحيح” ومن طريقه البيهقي في “سننه” (10/221): حدثنا الحسن بن سفيان([10]) حدثنا هشام بن عمار به.
وهناك أربعة آخرون رووه عن هشام بن عمار، لم يتفرد به هو ولا شيخه صدقة بن خالد، بل إنهما قد تُوبِعا، وساق الألباني هذه المتابعة وصححها.
الحديث الثاني:
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة: مزمار عند نعمة، ورنَّة عند مصيبة”.
أخرجه البزار في “مسنده”، انظر “كشف الأستار” (1/377/795)، والضياء المقدسي في “الأحاديث المختارة” (6/188/2200، 2201).
حسّنه الألباني من هذا الوجه، وذكر له شاهداً من حديث عبد الرحمن بن عوف، حسّنه لغيره.
الحديث الثالث:
عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيَّ أو حُرِّمَ الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْكُوبَةُ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ”.
أخرجه أبو داود ( 3696 )، والبيهقي ( 10 / 221 )، وأحمد في ” المسند ” ( 1 / 274 ) وفي ” الأشربة ” رقم ( 193 )، وأبو يعلى في ” مسنده ” ( 2729 )، وعنه ابن حبان في ” صحيحه ” ( 5341 ) وغيرهم.
وساق الألباني إسناداً آخر.
وقال: أخرجه أحمد (1/289)، وفي “الأشربة” (14)، والطبراني (12601) والبيهقي (10/213-221).
ثم قال: وهذا إسناد صحيح من طريقيه، وذكر أن الشيخ أحمد شاكر صححه.
الحديث الرابع:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص –رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إن الله عزّ وجل حرّم الخمر، والميسر، والكوبة، والغبيراء، وكل مسكر حرام”.
قال العلامة الألباني: وله ثلاث طرق، ضعّفه من طريقين وحسّنه الثالثة.
الحديث الخامس:
عن قيس بن سعد –رضي الله عنهما- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: “إن ربي حرّم عليّ الخمر والميسر والقنين والكوبة”.
أخرجه البيهقي (10/222)، والطبراني في “الكبير” (13/15/20)، وحسّن إسناده، وساقه من طريق أخرى ثم ضعّفها.
الحديث السادس:
عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: “في هذه الْأُمَّةِ خَسْفٌ وَمَسْخٌ وَقَذْفٌ فقال رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ: يا رَسُولَ اللَّهِ وَمَتَى ذَاكَ قال إذا ظَهَرَتْ الْقَيْنَاتُ وَالْمَعَازِفُ وَشُرِبَتْ الْخُمُورُ “.
خرّجه الألباني من الترمذي “كتاب الفتن” حديث (2212).
ثم خرّجه من مصادر أخرى، وذكر له متابعتين، وانتهى إلى تصحيحه.
ثم قال: “ويزداد قوّة بما له من الشواهد”.
وساق شواهده من عدة مصادر من حديث أبي هريرة وعلي وأبي أمامة وأنس بن مالك -رضي الله عنهم-.
الحديث السابع:
عن أبي أمامة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ” لا يَحِلُّ بَيْعُ الْمُغَنِّيَاتِ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَلا تِجَارَةٌ فِيهِنَّ، وَثَمَنُهُنَّ حَرَامٌ، وقال: إنما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ في ذلك: (وَمَنَ الناس من يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث) حتى فَرَغَ مِنَ الآيَةِ..”.
ثم ذكر الفصل الثاني في “شرح مفردات “غريب الحديث”” من (ص75-79).
ثم عقد الفصل الثالث في “الرد على ابن حزم وغيره ممن أعلَّ شيئاً من الأحاديث المتقدمة” من (ص80-91).
قال في طليعته: “قلت : سبق أن رددت على ابن حزم وغيره من الطاعنين في الأحاديث الصحيحة في المقدمة، وفي أثناء تخريج الأحاديث الستة الصحيحة المتقدمة، والذي أُريد بيانه الآن، أنَّ أحاديث التحريم بالنسبة لابن حزم ونظرتنا إليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما ضعفه منها، وهو مخطئ.
الثاني : ما لم يقف عليه منها، أو وقف على بعض طرقها دون بعض، ولو وقف عليها وثبتت عنده لأخذ به، فهو معذور – خلافا لمقلديه! -، ولا سيما وقد عقب على ما ضعّف منها بقوله حالفًا غير حانث إن شاء الله ( 9 / 59 ) :
“ووالله لو أُسنِد جميعه، أو واحدٌ منه فأَكثر من طريق الثقات إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما ترددنا في الأخذ به”.
هذا هو الذي نظنّه فيه، والله حسيبه، وأمّا المقلدون له بعد أن قامت عليهم الحجّة وتبينت لهم المحجّة، فلا عذر لهم ولا كرامة، بل مثلهم كمثل ناس في الجاهليّة كانوا يعبدون الجنّ، فأسلم هؤلاء، واستمر أولئك في عبادتهم وضلالهم، كما قال تعالى : ( أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ).
الثالث : ما ضعّفه منها، ولم يبدُ لنا اعتراض عليه، فلا شأن لنا به، فسيكون ردي عليه إذن في القسم الأول والثاني”.
ثم ناقش ابن حزم في تعليله لحديث هشام بن عمار عن صدقة بن خالد بإسناده مرفوعاً: ” لَيَكُونَنَّ من أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ…”.
ونقل ردود العلماء على ابن حزم من مثل الحافظ ابن القيم والحافظ ابن حجر، ثم ذكر أسماء العلماء الذين صححوا هذا الحديث في (ص89) وهُم:
“1 – البخاري 2 – ابن حبان 3 – الإسماعيلي
4 – ابن الصلاح 5 – النووي 6 – ابن تيمية
7 – ابن القيّم 8 – ابن كثير 9 – العسقلاني
10 – ابن الوزير الصنعاني 11 – السخاوي 12 – الأمير الصنعاني.
ثم قال: “( انظر كتابي الجديد ” ضعيف الأدب المفرد “، في أثناء الرد على ابن عبد المنان في المقدمة ) إلى غير هؤلاء ممن لا يحضرني، فهل يدخل في عقل مسلم أن يكون المخالفون كابن حزم ومن جرى خلفه – وليس فيهم مختص في علم الحديث – هل يعقل أن يكون هؤلاء على صواب، وأولئك الأئمّة على خطأ ؟! ( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون )، ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد )”اهـ.
ثم عقد الفصل الرابع “في دلالة الأحاديث على تحريم الملاهي بجميع أشكالها” من (ص92-97).
ثم قال في طليعته:
“اعلم أخي المسلم أنَّ الأحاديث المتقدمة صريحة الدلالة على تحريم آلات الطرب بجميع أشكالها وأنواعها، نصّاً على بعضها كالمزمار والطبل والبربط، وإلحاقاً لغيرها بها، وذلك لأمرين :
الأول : شمول لفظ ( المعازف ) لها في اللغة كما تقدم بيانه في ( الفصل الثاني )، وكما سيأتي أيضاً عن ابن القيم.
والآخر : أنها مثلها في المعنى من حيث التطريب والإلهاء، ويؤيد ذلك قول عبد الله ابن عباس -رضي الله عنهما- :
“الدّف حرام، والمعازف حرام، والكوبة حرام، والمزمار حرام”.
أخرجه البيهقي ( 10 / 222 ) من طريق عبد الكريم الجزري عن أبي هاشم الكوفي عنه”اهـ.
ثم عقد الفصل الخامس “مذاهب العلماء في تحريم آلات الطرب” من (ص98-105).
ثم عقد الفصل السادس “شبهات المبيحين (للغناء) وجوابها” من (ص106-125) أجاد فيه وأفاد مدعماً ذلك بردود العلماء كابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي وابن حجر والخطابي -رحمهم الله-.
ثم قسّم هذا النوع إلى قسمين، محرّم ومباح، والمباح هو إنشاد الشعر النافع.
ثم عقد الفصل السابع “في الغناء بدون آلة” من (ص126-136)، وذكر ما يجوز منه وهو ما يعرف عند العرب بالنصْب.
ثم قال في (ص129):
“وقال (أي البيهقي): “و ( النصب ) ضرب من أغاني الأعراب، وهو يشبه الحداء . قاله أبو عبيد الهروي”.
وفي ” القاموس ” : ” نصب العرب : ضرب من مغانيها أَرقّ من الحداء “”.
ثم قال: “فأقول : وفي هذه الأحاديث والآثار دلالة ظاهرة على جواز الغناء([11]) بدون آلة في بعض المناسبات، كالتذكير بالموت، أو الشوق إلى الأهل والوطن، أو للترويح عن النفس، والالتهاء عن وعثاء السفر ومشاقه، ونحو ذلك مما لا يُتخذ مهنة، ولا يُخرج به عن حدِّ الاعتدال، فلا يقترن به الاضطراب والتثنِّي والضرب بالرِّجل مما يخلُّ بالمروءة”اهـ.
ثم عقد الفصل الثامن من (ص137) إلى آخر الكتاب (ص182) أجاد فيه وأفاد، وأورد فيه كلام ابن عباس وابن مسعود وعكرمة ومجاهد في سبب نزول قول الله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِى لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ)، وذكر مصادر أقوالهم، ونقل قول الواحدي في تفسيره: ” أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء”، ثم ذكر الآثار السلفية الدالة على حكمة التحريم:
أولها- قول ابن مسعود: “الغناء ينبت النفاق في القلب ” وصححه وقال: له حكم الحديث المرفوع إذ مثله لا يقال من قبل الرأي.
ونقل عن الشعبي مثل قول ابن مسعود وحسّنه.
ونقل كلاماً رائعاً عن ابن القيم في بيان وجه كون الغناء ينبت النفاق في القلب.
ثم تكلم في هذا الفصل عن الغناء الصوفي والأناشيد الإسلامية، وساق حججاً عظيمة في بيان بطلانهما وضلال متعاطيهما مدعماً بيانه بنصوص الكتاب والسنة، وبالنقول عن أعلام العلماء وفحولهم مثل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشاطبي والطرطوشي والقرطبي والآلوسي، رحمه الله، ورحم علماء الإسلام الناصحين للإسلام والمسلمين والذابين عن الدين.
19- قال الكاتب: “ وعن فاطمة بنت قيس، أخت الضحاك بن قيس، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: انتقلي إلى أم شريك، وأم شريك امرأة غنية من الأنصار عظيمة النفقة في سبيل الله، ينزل عليها الضيفان فقلت: سأفعل، فقال: «لا تفعلي، إن أم شريك امرأة كثيرة الضيفان، فإني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين، ولكن انتقلي إلى ابن عمك عبد الله بن عمرو بن أم مكتوم… الحديث».
قلت: أخرجه مسلم، وفيه أن أم شريك ينزل عليها الضيفان ومن لوازم ذلك الاختلاط”.
أقول:
1- إن أم شريك امرأة كبيرة السن.
2- أن الحديث ليس فيه ما يدل على أنها تخالط ضيوفها، بل يمكن أن تقدم لهم ضيافتهم وهي محتجبة عنهم خاصة وهي امرأة جليلة كثيرة البذل في سبيل الله فيبعد من أمثالها مخالطة الرجال امتثالاً لأمر الله بالحجاب وغض الأبصار.
3- تأمل كيف فرّق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينها وبين فاطمة بنت قيس -رضي الله عنهما-، فصرفها عن الاعتداد في بيت أم شريك إبعاداً لها عن أنظار الرجال، وَاعْتَبِرْ بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “فإني أكره أن يسقط عنك خمارك، أو ينكشف الثوب عن ساقيك، فيرى القوم منك بعض ما تكرهين”.
وهذا وذاك حجة عليك وعلى دعاة الاختلاط، ثم لو كان الاختلاط مباحاً عند رسول الله وأصحابه فلماذا صرفها عن أمر جائز أو مشروع عند دعاة الاختلاط ؟
20- قال الكاتب : ” وعن سالم بن سريج أبي النعمان قال : سمعت أم صبية الجهنية تقول : ربما اختلفت يدي بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوضوء من إناء واحد.
قلت: أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وإسناده صحيح، وأم صبية الجهنية ليست من محارمه -صلى الله عليه وسلم-، ففيه جواز الاختلاط، وجواز وضوء الرجال مع غير محارمهم من النساء، ولا يلزم منه رؤية ما لا يجوز من المرأة”.
أقول:حديث أم صبية الجهنية، رواه أحمد في المسند (6/367)، وأبو داود في “الطهارة” حديث (78) وابن ماجه في “الطهارة” حديث (382)، كلهم من طريق أسامة ابن زيد هو الليثي، قال فيه الحافظ: “صدوق يهم”، وقال الحافظ الذهبي في “الكاشف” قال النسائي وغيره: ليس بالقوي، فالحديث من طريقه ضعيف.
لكن تابعه خارجة بن الحارث المزني عن سالم بن سرج به، وخارجة قال فيه الحافظ: صدوق، وكذا قال الذهبي.
وكان يمكن أن يحسن لكن يعكر عليه أنه جاء في نسخة أبي داود الهندية قوله: “حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا وكيع عن أسامة بن زيد عن ابن خربوذ عن أم صبية عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: “اختلفت يدي ويد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوضوء من إناء واحد”، وهذا هو اللائق بمكانة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخلاقه الشريفة.
فمن أراد الاحتجاج بهذا الحديث لغير رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأمامه عقبات، منها:
1- هذه الرواية التي هي عن أم صبية عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: ” اختلفت يدي ويد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الوضوء من إناء واحد”، وهو اللائق به -صلى الله عليه وسلم-، بل هو اللائق بمن هو دونه من الصحابة الكرام.
2- أنه يعارض آيات وأحاديث الحجاب وآيات وأحاديث منع النظر إلى النساء، وأحاديث النهي عن الخلوة بالنساء.
3- أنه يخالف قاعدة سد الذرائع التي بُنيت على آيات محكمة وأحاديث متواترة.
4- لقد ضعّف النووي هذا الحديث([12]) ، وعلى فرض ثبوته فإنه مع عصمة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحمل على أنه قبل نزول مشروعية الحجاب فهو منسوخ.
5- على فرض ثبوته فلا متعلق لدعاة الاختلاط به، فليس فيه صورة الاختلاط التي يدعون إليها لا لغة ولا عرفاً.
21- قال الكاتب: ” ويشهد لذلك ما رواه ابن عمر قال: (كان الرجال والنساء يتوضأون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا).
قلت: أخرجه البخاري، وفيه جواز الاختلاط عموما، وأنه ليس من خصوصياته عليه السلام.
وفي رواية بلفظ: (أنه – أي ابن عمر- أبصر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يتطهرون والنساء معهم، الرجال والنساء من إناء واحد، كلهم يتطهر منه).
قلت: أخرجها ابن خزيمة، وإسنادها صحيح.
وفي رواية بلفظ: (كنا نتوضأ نحن والنساء على عهد رسول الله من إناء واحد، ندلي فيه أيدينا).
قلت: أخرجها أبو داود، وإسنادها صحيح، والمعنى في هذه الألفاظ واحد، وكلها تفيد جواز الاختلاط عموما، وقد وجهه البعض بأن القصد هو وضوء الرجل وزوجه فقط، وهو توجيه باطل، يرده منطوق تلك الروايات التي تقطع بجواز الاختلاط عموما”.
أقول: قال الحافظ ابن حجر في “الفتح” (1/359) في شرح الحديث رقم (193):
” قوله جميعا ظاهره إنهم كانوا يتناولون الماء في حالة واحدة وحكى ابن التين عن قوم أن معناه أن الرجال والنساء كانوا يتوضؤون جميعا في موضع واحد هؤلاء على حدة وهؤلاء على حدة والزيادة المتقدمة في قوله من إناء واحد ترد عليه وكأن هذا القائل استبعد اجتماع الرجال والنساء الأجانب وقد أجاب بن التين عنه بما حكاه عن سحنون أن معناه كان الرجال يتوضؤون ويذهبون ثم تأتي النساء فيتوضأن وهو خلاف الظاهر من قوله جميعا قال أهل اللغة الجميع ضد المفترق وقد وقع مصرحا بوحدة الإناء في صحيح بن خزيمة في هذا الحديث من طريق معتمر عن عبيد الله عن نافع عن بن عمر أنه أبصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهر منه والأولى في الجواب أن يقال لا مانع من الاجتماع قبل نزول الحجاب وأما بعده فيختص بالزوجات والمحارم”اهـ.
وما رجحه الحافظ أقوى وأرجح من الأقوال التي حكاها؛ لأنه هو اللائق بمكانة الصحابة الكرام؛ ولأنهم أطوع لأوامر الله ورسوله وأبعدهم عن مخالفة نواهيه، فحاشاهم ثم حاشاهم أن يخالفوا آيات الحجاب وآيات تحريم نظر الرجال إلى النساء، والنساء إلى الرجال، ثم يحتشدون في صعيد واحد مجتمعين على هذه المخالفة التي هي من أكبر صور المخالفة، كيف وقد سمعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لجرير: ” اصْرِفْ بَصَرَكَ”.
وأقوى من هذا الذي رجّحه الحافظ ما فقهه الإمام البخاري –رحمه الله- وترجم به لهذا الحديث بقوله: “ باب وُضُوءِ الرَّجُلِ مع امْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ “، فهذا أليق المعاني بأصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- الشرفاء، خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر”؟
فما بال هذا الكاتب لا يأتي إلا بأسوأ المحامل لأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحاب رسول الله -رضوان الله عليهم-، بينما العلماء لا يأتون إلا بأحسن المحامل وأليقها بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأليقها بأصحابه الكرام؟
وفي المثل: “كل إناء بما فيه ينضح”.
22- قال الكاتب: ” وعن الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة.
قلت: أخرجه البخاري، وفيه جواز خروج المرأة في الغزو لخدمة القوم ومداواتهم، ورد الجرحى والقتلى”.
أقول: قال الحافظ في “الفتح” (6/94) في شرح حديث (2883):
” وفيه جواز معالجة المرأة الأجنبية الرجل الأجنبي للضرورة قال ابن بطال ويختص ذلك بذوات المحارم ثم بالمتجالات منهن؛ لأن موضع الجرح لا يلتذ بلمسه بل يقشعر منه الجلد فإن دعت الضرورة لغير المتجالات فليكن بغير مباشرة ولا مس، ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل لا يباشر غسلها بالمس بل يغسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري وفي قول الأكثر تيمم، وقال الأوزاعي تدفن كما هي، قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وتغسيل الميت أن الغسل عبادة والمداواة ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات”.
فأين هو الاختلاط؟، إن الرجال لمشغولون بالجهاد في سبيل الله، والنساء إنما يداوين محارمهن، وإما أن تكون المرأة من المتجالات فتداوي الجريح الذي قد يكون مشرفاً على الموت أو ترد قتيلاً، بل الظاهر أن هذا ما حصل إلا في يوم أُحد قبل نزول الأمر بالحجاب.
وعلى كل، فإذا اضطر النساء إلى مداواة الرجال فلا حرج في ذلك؛ لأن الضرورات تبيح المحظورات كما قال تعالى: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فئ مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة : ( 3 )].
فمن يبيح الاختلاط مطلقاً وفي كل الأحوال لا في حال الحاجة والاضطرار كالذي يبيح الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله مطلقاً وفي كل الأحوال، فأين آيات الحجاب وأحاديث تحريم النظر وأحاديث التحذير من فتنة النساء؟ فلعل طغيان الحضارة الغربية أنست دعاة الاختلاط هذه الآيات والأحاديث وما تدل عليه من قواعد وقيم وأخلاق.
23- قال الكاتب: ” وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، ففقدها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فسأل عنها بعد أيام، فقيل له: إنها ماتت، قال: «فهلا آذنتموني»، فأتى قبرها، فصلى عليها.
قلت: أخرجه البخاري ومسلم، وفيه مشروعية عمل المرأة في المسجد ونحوه”.
أقول:
أولاً- لقد عزا هذا الرجل الحديث بهذا اللفظ إلى صحيحي البخاري ومسلم، مع أن الحديث في صحيح البخاري في ثلاثة مواضع:
1- في الموضع الأول برقم (458): عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَسْوَدَ أو امْرَأَةً سَوْدَاءَ كان يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ، فَسَأَلَ النبي -صلى الله عليه وسلم- عنه فَقَالُوا: مَاتَ، قال: أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ؟ دُلُّونِي على قَبْرِهِ، أو قال: قَبْرِهَا، فَأَتَى قَبْرَهَا فَصَلَّى عليها”.
2- وفي الموضع الثاني برقم (460): عن أبي هُرَيْرَةَ: أَنَّ امْرَأَةً أو رَجُلًا، كانت تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، ولا أُرَاهُ إلا امْرَأَةً، فذكر حَدِيثَ النبي -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ صلى على قبرها”.
3- وفي الموضع الثالث برقم (1337): عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ أَسْوَدَ رَجُلًا أو امْرَأَةً كان يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ ولم يَعْلَمْ النبي -صلى الله عليه وسلم- بِمَوْتِهِ فَذَكَرَهُ ذَاتَ يَوْمٍ فقال: ما فَعَلَ ذلك الْإِنْسَانُ؟ قالوا: مَاتَ يا رَسُولَ اللَّهِ، قال: أَفَلَا آذَنْتُمُونِي، فَقَالُوا: إنه كان كَذَا وَكَذَا قِصَّتُهُ قال: فَحَقَرُوا شَأْنَهُ، قال: فَدُلُّونِي على قَبْرِهِ، فَأَتَى قَبْرَهُ فَصَلَّى عليه”.
يلاحظ أن أكثر الضمائر في الحديث الأول والثالث لم تعد إلا على الرجل، بل في الحديث الثالث بعد ذكر الرجل والمرأة لم تعد الضمائر إلا على الرجل.
وفي صحيح مسلم حديث رقم (956): عن أبي هُرَيْرَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كانت تَقُمُّ الْمَسْجِدَ (أو شَابًّا) فَفَقَدَهَا رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ، فَسَأَلَ عنها (أو عنه) فَقَالُوا: مَاتَ، قال: “أَفَلَا كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي”. قال: فَكَأَنَّهُمْ صَغَّرُوا أَمْرَهَا (أو أَمْرَهُ). فقال: “دُلُّونِي على قَبْرِهِ” فَدَلُّوهُ. فَصَلَّى عليها. ثُمَّ قال: “إِنَّ هذه الْقُبُورَ مَمْلُوءَةٌ ظُلْمَةً على أَهْلِهَا وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل يُنَوِّرُهَا لهم بِصَلَاتِي عليهم”.
نلاحظ هنا الضمائر شبه متعادلة.
فأنا أسأل هذا الرجل: لماذا لم تسق هذا الحديث عند البخاري كما رواه؟ ولماذا لم تسقه كما رواه مسلم؟
ولماذا تبالغ هذه المبالغة في إخفاء لفظة “رجل” ؟ أليس هذا العمل من التلبيس؟
ثانياً- قال الكاتب: ” وفيه مشروعية عمل المرأة في المسجد ونحوه”.
هكذا يستدل بهذا الحديث على جواز عمل المرأة، مع أن الراوي الصحابي لم يجزم بأنّ هذا الشخص امرأة، بل هو يشك، والغالب على ظنه أنه رجل، يتناسى كل هذا فيقدم ما تهواه نفسه جازماً بذلك، فأين هو التثبت والورع وتحري قول الحق؟
ثالثاً- لما لم يساعده الحديث بالدلالة على الاختلاط المطلق ولا غير المطلق استدل به على مشروعية عمل المرأة أي على مذهب دعاة الاختلاط المطلق في المساجد والمصانع والمزارع والأسواق والجامعات والإدارات.
ولنأتِ إلى العلماء لنعرف ماذا استفادوا من هذا الحديث.
قال النووي في “شرحه لصحيح مسلم” في شرح هذا الحديث (7/25): “وفيه (أي هذا الحديث) بيان ما كان عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- من التواضع والرفق بأمته وتفقد أحوالهم والقيام بحقوقهم والاهتمام بمصالحهم في آخرتهم ودنياهم”.
وهذا أمر يدركه كل عاقل صادق الإيمان، ويلتمس مواطن التأسي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في منهجه وسيرته وأخلاقه.
24- قال الكاتب: ” وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: جاءت امرأة من الأنصار إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فخلا بها فقال: (والله إنكن لأحب الناس إلي).
قلت: أخرجه البخاري ومسلم، وقوله: (لأحب الناس إلي) يعني بذلك الأنصار، وقد بوب عليه البخاري -رحمه الله- بقوله: «باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس»، قال الحافظ ابن حجر: أي لا يخلو بها بحيث تحتجب أشخاصهما عنهم، بل بحيث لا يسمعون كلامهما إذا كان بما يخافت به، كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بين الناس. وأخذ المصنف قوله في الترجمة «عند الناس» من قوله في بعض طرق الحديث «فخلا بها في بعض الطرق أو في بعض السكك» وهي الطرق المسلوكة التي لا تنفك عن مرور الناس غالبا.
وفيه جواز الاختلاط، وجواز الخلوة بالمرأة عند الناس، وكل خلوة تنتفي فيها التهمة لا يتحقق فيها النهي على الصحيح، وإنما المحرم منها ما تحققت فيه التهمة فقط”.
أقول: هذا الحديث أورده البخاري برقم (3786)، وليس فيه “فخلا بها”.
وفيه “ومعها صبي لها”، وفيه الحلف مرتين.
وأورده برقم (5234)، وفيه “فخلا بها”، وليس فيه: “ومعها صبي لها”، وليس فيه مرتين ولا ثلاث.
وأورده برقم (6645)، وليس فيه: “فخلا بها”، وفيه الحلف ثلاث مرات.
وأورده النسائي في “الكبرى” برقم (8329)، (8330)، وليس فيه “فخلا بها”.
وأورده الإمام أحمد في “مسنده” (3/129)، وفيه “معها ابن لها”، وفيه “فخلا بها”.
وفي (3/258) “معها ابن لها”، وليس فيه “فخلا بها”.
وأورده مسلم في “صحيحه” برقم (2509)، وليس فيه ذكر الصبي ولا ذكر الأولاد،وفيه “فخلا بها”، وفيه القسم ثلاث مرات.
أما قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للأنصار: “والله إنكم لأحب الناس إليّ”، فثابت من هذا الحديث وغيره مما هو أصح منه.
وأما قوله “فخلا بها” ففي النفس منه شيء؛ لأنه لم يُذكر في أكثر طرق هذا الحديث، وأخشى أن يكون بعض الرواة قاله بدلاً من قول أنس -رضي الله عنه-: “فكلمها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-“، كما في الطريق التي رواها البخاري برقم (3786).
وعلى فرض ثبوت هذا اللفظ فإنه يجاب عنه:
1- بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصوم، فلا يقاس عليه غيره.
2- أن مثل هذا من خصوصياته -صلى الله عليه وسلم-، وهذه الخصوصية ثبتت بالأدلة، كما قال ذلك الحافظ ابن حجر([13]).
3- يؤكده أن الصحابة الكرام لم يكن منهم مثل هذا، وهذا من أدلة الخصوصية برسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وقالت عائشة –رضي الله عنها-: “وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إرْبَهُ كما كان رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَمْلِكُ إرْبَهُ”.
فكيف يقاس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المعصوم شباب وشابات هذا العصر، لاسيما المولعين بالاختلاط، ومن فتحت لهم أبواب الاختلاط في بعض البلدان؛ الأمر الذي يدعو إليه هذا الرجل وأمثاله.
4-يحتمل احتمالاً قوياً أن يكون هذا قبل نزول فرض الحجاب والنهي عن الخلوة بالأجنبية، وإذا تطرق الاحتمال بطل الاستدلال، فليثبت الكاتب أن هذا كان بعد فرض الحجاب.
25- قال الكاتب: ” وعن عائشة -رضي الله عنها- في قصة الإفك قالت: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرا، وقد ذكروا رجلا ما علمت عليه إلا خيرا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي… الحديث».
قلت: أخرجه البخاري، وفيه جواز الاختلاط، وجواز دخول الرجل على المرأة إذا كان زوجها معها”.
أقول: إن الاستدلال بهذا الحديث على جواز الاختلاط الذي يدعو إليه هذا الكاتب لمن العجائب، ألا يعلم أن دخول صفوان بن المعطل على عائشة قبل فرض الحجاب، وما كان دخوله هذا إلا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
فعن عائشة –رضي الله عنها- تروي براءتها من الإفك الذي رميت به -برأها الله-، قالت:
” كان رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إذا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بين أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بها رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- معه، قالت عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا في غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَخَرَجْتُ مع رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بعد ما نَزَلَ الْحِجَابُ فَأَنَا أُحْمَلُ في هَوْدَجِي وَأُنْزَلُ فيه…….، فَبَيْنَا أنا جَالِسَةٌ في مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ وكان صَفْوَانُ بن الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ من وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَدْلَجَ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حين رَآنِي وكان يراني قبل الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حين عَرَفَنِي فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي والله ما كَلَّمَنِي كَلِمَةً ولا سمعت منه كَلِمَةً غير اسْتِرْجَاعِهِ حتى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ على يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حتى أَتَيْنَا الْجَيْشَ([14]) ….إلخ.
فهل من الأمانة إغفال قول عائشة عن صفوان: “وكان يراني قبل الْحِجَابِ”؟، وقولها: ” فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي”، وقولها: “والله ما كَلَّمَنِي كَلِمَةً ولا سمعت منه كَلِمَةً غير اسْتِرْجَاعِهِ”، أمَنْ يألف الاختلاط يعمل كل هذا؟!
أليس هذا من عملِ خونة أهل الأهواء الذين يأخذون ما لهم، ويتركون ما هو عليهم.
فإن فرضنا أنه ما علم بهذا الأمر ولا رآه، فيقال: إن كان لا يعلم هذا فهي مصيبة، إذ كيف يتكلم في هذا الأمر الخطير بغير علم؟
وإن كان يعلم ذلك فالمصيبة أعظم، كما قال الشاعر:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
والذي يترجح أنه يدري؛ لأنه أخذ هذه القطعة التي احتج بها على جواز الاختلاط من الحديث الذي نصت عائشة –رضي الله عنها- فيه على أن دخول صفوان عليها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان قبل الحجاب…الخ.
فما أصاب هذا الرجل إلا أنه اعتقد جواز الاختلاط الذي يدعو إليه قبل أن يدخل في معركة الاستدلال لها، وفي منهجه في الاستدلال عبر وعبر لأولي الألباب,
ويحسن أن نذكر قول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: “وما استدل مبطل بنص من القرآن والسنة إلا كان في ذلك النص ما يبطل دعواه”، أو كما قال -رحمه الله-.
26- قال الكاتب ” وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن نفراً من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس، فدخل أبو بكر الصديق، وهي تحته يومئذ، فرآهم، فكره ذلك، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لم أر إلا خيرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله قد برأها من ذلك). ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: (لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو اثنان).
قلت: أخرجه مسلم والنسائي وابن حبان، وفيه جواز الاختلاط، كما يفيده الحديث، والمغيبة هي ذات الزوج التي غاب عنها زوجها”.
أقول:
1- أنت ادعيت في أول كلامك أن الاختلاط كان من هدي أصحاب رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ألا ترى في موقف أبي بكر هذا ما يبطل دعواك العريضة التي تصادم هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه؟
فهذا أبو بكر-رضي الله عنه- يكره دخول بني هاشم وهم من قرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن أفاضل أصحابه على زوجته أسماء بنت عميس التي هاجرت هجرتين لقوة إيمانها، ومن هنا برأها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وقال أبو بكر: “لم أر إلا خيراً”، فهل في النساء اليوم مثل أسماء؟، وهل في الرجال اليوم مثل بني هاشم الذين دخلوا على أسماء؟
2- إن دخول رجلين أو ثلاثة من الأفاضل الأمناء الأتقياء على امرأة شريفة محتشمة لضرورة أو حاجة ليس من الاختلاط الذي يدعو إليه المستشرقون وأتباعهم من دعاة الاختلاط.
وإذن فقولك” وفيه جواز الاختلاط، كما يفيده الحديث”، هكذا بدون شروط قول باطل.
قال النووي – رحمه الله- في “شرحه لصحيح مسلم”([15]) معلقاً على هذا الحديث:
” ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية والمشهور عند أصحابنا تحريمه فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك وقد أشار القاضي إلى نحو هذا التأويل”.
وقال القرطبي في ” المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم” (5/502-503):
” وقوله : (( إن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس )) ؛ كان هذا الدخول في غيبة أبي بكر – رضي الله عنه – ، لكنه كان في الحضر لا في السفر ، وكان على وجه ما يعرف من أهل الصلاح والخير ، مع ما كانوا عليه قبل الإسلام مما تقتضيه مكارم الأخلاق من نفي التهمة والريب ، كما قدمناه . ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب، وقبل أن يُتقدَّم لهم في ذلك بأمر ولا نهي؛ غير أن أبا بكر – رضي الله عنه- أنكر ذلك بمقتضى الغيرة الجبليَّة ، والدِّينيَّة ، كما وقع لعمر -رضي الله عنه- في الحجاب . ولما ذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ما يعلمه من حال الدَّاخلين ، والمدخول لها ، قال : “لم أرَ إلا خيرًا” ؛ يعني : على الفريقين ، فإنَّه علم أعيان الجميع ؛ لأنَّهم كانوا من مسلمي بني هاشم ، ثم خصَّ أسماء بالشهادة لها فقال : (( إن الله قد برَّأها من ذلك )) ؛ أي : مما وقع في نفس أبي بكر ، فكان ذلك فضيلة عظيمة من أعظم فضائلها ، ومَنْقبةً من أشرف مناقبها ، ومع ذلك فلم يكتف بذلك رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حتى جمع الناس ، وصعد المنبر ، فنهاهم عن ذلك ، وعلَّمهم ما يجوز منه فقال : (( لا يدخلن رجلٌ على مغيبةٍ إلا ومعه رجل، أو اثنان )) ؛ سدًّا لذريعة الخلوة، ودفعًا لما يؤدِّي إلى التهمة . وإنَّما اقتصر على ذكر الرَّجل والرَّجلين لصلاحية أولئك القوم ؛ لأنَّ التهمة كانت ترتفع بذلك القدر. فأمَّا اليوم : فلا يكتفى بذلك القدر ، بل بالجماعة الكثيرة لعموم المفاسد ، وخبث المقاصد، ورحم الله مالكًا ، لقد بالغ في هذا الباب حتى منع فيه ما يجرُّ إلى بعيد التُّهم والارتياب ؛ حتى منع خلوة المرأة بابن زوجها ، والسفر معه ، وإن كانت محرَّمةً عليه ؛ لأنَّه ليس كلُّ أحدٍ يمتنع بالمانع الشرعي؛ إذا لم يقارنه مانعٌ عادي ، فإنَّه من المعلوم الذي لا شك فيه : أنّ موقع امتناع الرجل من النظر بالشهوة لامرأة أبيه ليس كموقعه منه لأمه وأخته . هذا قد استحكمت عليه النفرةُ العادية ، وذلك قد أنست به النفس الشهوانية ، فلا بدَّ مع المانع الشرعي في هذا من مراعاة الذرائع الحاليَّة”.
أقول:
انظر إلى هذا الأسلوب العلمي الذي لا يخطر ببال دعاة الاختلاط:
1- إلى قول القرطبي: ” وكان على وجه ما يعرف من أهل الصلاح والخير…إلخ.
2- قوله: ” ولعل هذا كان قبل نزول الحجاب، وقبل أن يُتقدَّم لهم في ذلك بأمر ولا نهي”.
3- قوله: ” غير أن أبا بكر – رضي الله عنه- أنكر ذلك بمقتضى الغيرة الجبليَّة ، والدِّينيَّة ، كما وقع لعمر -رضي الله عنه- في الحجاب…الخ”.
4- وانظر إلى قوله: “… وإنَّما اقتصر على ذكر الرَّجل والرَّجلين لصلاحية أولئك القوم؛ لأنَّ التهمة كانت ترتفع بذلك القدر. فأمَّا اليوم : فلا يكتفى بذلك القدر ، بل بالجماعة الكثيرة لعموم المفاسد ، وخبث المقاصد”.
5- انظر إلى موقف مالك في هذا الباب حيث يمنع الخلوة بالمرأة من ابن زوجها.
أقول: هكذا يتعامل العلماء مع الأحاديث النبوية.
بخلاف دعاة الاختلاط، ولا سيما كاتبنا هذا الذي يحمل النصوص ويأطرها على ما يريد أطراً.
فأين هذا الرجل وأين المحامل الصحيحة اللائقة بأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واللائقة بأصحابه التي يفقهها العلماء ويسلكونها ؟!
وأين الفرق بين أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- وبين أناس فسدت أحوالهم ومقاصدهم إلا من سلّم الله، وقليل ما هم في هذه الدنيا؟
27- قال الكاتب:” وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه سمعه يقول كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدخل على أم حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأطعمته، وجعلت تفلي رأسه، فنام رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم استيقظ، وهو يضحك، قالت فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر… الحديث».
قلت: أخرجه البخاري ومسلم، وفيه جواز دخول الرجل على المرأة في غير تهمة، وفيه جواز فلي المرأة رأس الرجل، ونحوه القص والحلق.
وقصة أم حرام هذه وقعت بعد نزول الحجاب، وبعد حجة الوداع كما حكاه ابن حجر في الفتح في شرح كتاب الاستئذان، وقد أشكل توجيهها على البعض فقال ابن عبدالبر: أظن أن أم حرام قد أرضعت النبي صلى الله عليه وسلم أو أختها أم سليم، فصارت كل منهما أمه أو خالته من الرضاعة.
قلت: لم يذكر ابن عبد البر لذلك دليلا إلا قوله أظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وليس له في ذلك مستند يعتمد عليه، فإن أمهات النبي -صلى الله عليه وسلم- من الرضاع معلومات، ليس فيهن أحد من الأنصار البتة، وأم حرام من خؤولة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي خؤولة لا تثبت بها محرمية، فإنها من بني النجار، يجتمع نسبها مع أم عبد المطلب جدة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عامر بن غنم جدهما الأعلى.
فأم حرام بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام بن جندب بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار.
وأم عبد المطلب هي سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن حراش بن عامر بن غنم المذكور.
أفاد ذلك ابن حجر نقلا عن الدمياطي (انظر فتح الباري 11/80)، فإن الشرح هناك مستوفى).
ومن زعم أن ذلك من خصوصياته عليه السلام، فقد تحكم بغير برهان فإن الخصوصية حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل، والأصل مشروعية التأسي بأفعاله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولا يترفع عن التأسي بأفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا متهوك ضال.
والصواب أن فلي المرأة رأس الرجل من الأمور الجائزة ونحوه القص والحلق([16])، فالحديث يفيد جوازه وجواز الاختلاط”.
أقول :
1- عجباً لهذا الرجل يرى أقوال أهل العلم في تلمس أحسن المحامل لعمل رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيردها، لا ليأتي بمحمل أحسن وأنسب وأليق برسول الله – صلى الله عليه وسلم – بل ليقدم قوله ويغلبه على أقوال العلماء الذين يستحضرون ما جاء في الشريعة الإسلامية من نصوص الحجاب والنصوص التي تحرِّم نظر الرجال إلى النساء من غير محارمهم والنصوص التي تحذر من فتنة النساء التي هي أخطر الفتن على الرجال، ويتجاهل الأحاديث التي فيها: “لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما”، ذلكم الحديث الصحيح الذي رواه عدد من الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-.
ويتجاهل قاعدة سد ذرائع الفساد المأخوذة من عشرات الأدلة من القرآن والسنة لا سيما في هذا الباب.
ويتناسى قاعدة تقديم النص الحاظر على النص المبيح.
ويتناسى أو يجهل كيف يجب التعامل مع النصوص التي يظهر منها التعارض بأن يجمع بينها إن أمكن الجمع، أو البحث عن الناسخ، فإن وجد قدّم الناسخ على المنسوخ أو الترجيح بأحد المرجحات وهي كثيرة، أبلغها الحازمي إلى خمسين وأوصلها العراقي إلى المائة، ومنها تقديم الحاظر على المبيح.
يتجاهل هذه الطرق المأخوذة من شرع الله الحكيم ويتجاهل الأدلة على تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية وفيها أنه إذا خلا بها يكون الشيطان ثالثهما، فما الذي يحصل منهما إذا كان الشيطان ثالثهما؟
انظر كيف يرد قول ابن عبد البر، ويرد القول بخصوصية رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ويتناسى عصمته – صلى الله عليه وسلم – ويقول في سياق كلامه المظلم:
“والأصل مشروعية التأسي بأفعاله -صلى الله عليه وسلم-، قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) ولا يترفع عن التأسي بأفعال المصطفى صلى الله عليه وسلم إلا متهوك ضال.
والصواب أن فلي المرأة رأس الرجل من الأمور الجائزة ونحوه القص والحلق، فالحديث يفيد جوازه وجواز الاختلاط”.
هكذا يقول ويحتج بالآيتين الكريمتين في غير موضع التأسي المطلوب من المؤمنين.
فأين يضع أقوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في تحريم الخلوة بالمرأة الأجنبية وآيات وأحاديث تحريم النظر إلى الأجنبيات؟ وهل علمت أن الصحابة الكرام والعلماء العظام كانوا يتنافسون في التأسي به في الاختلاء بالنساء الأجنبيات؟
وهذا أمر دون إثباته خرط القتاد، فعلى قولك الباطل يكون أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم ضالين متهوكين.
ويكون دعاة الفتن والاختلاط هم أهل الهدى والاتباع والتأسي بالرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، فيا لها من داهية دهياء وفتنة عمياء يدعو إليها دعاة على أبواب جهنم.
2-تأمل هذه الأحاديث ففيها زاجر من أعظم الزواجر لمن كان له قلب وعقل ومراقبة لله.
واعجبوا لفقه هذا الرجل حيث لم يكتف بإباحة الخلوة بالمرأة الأجنبية حتى أضاف إلى ذلك جواز الفلي والحلق والقص، فهل هناك مانع مما وراء هذه الأمور؟
3-من المناسب هنا أن أنقل كلام العلماء الذين عرفوا مكانة النبي – صلى الله عليه وسلم- وعظمة شريعته:
قال النووي في “شرحه لصحيح مسلم” (13/ 57-58) في التعليق على هذا الحديث:
” اتفق العلماء على أنها ( أي أم حرام) كانت محرما له e واختلفوا في كيفية ذلك، فقال ابن عبد البر وغيره: كانت إحدى خالاته من الرضاعة، وقال آخرون: بل كانت خالة لأبيه أو لجده لأن عبد المطلب كانت أمه من بني النجار”.
ونقل الحافظ ابن حجر في الفتح (11/80-81) كلام ابن عبد البر وأقوال بعض العلماء الذين قالوا إن أم حرام من محارمه – صلى الله عليه وسلم – من جهة الخئولة.
ونقل عن ابن الجوزي قوله:” سمعت بعض الحفاظ يقول: كانت أم سليم أخت آمنة بنت وهب أم رسول الله e من الرضاعة”.
قال الحافظ:” وحكى ابن العربي ما قال ابن وهب ثم قال: وقال غيره بل كان النبي e معصوماً يملك إربه عن زوجته فكيف عن غيرها مما هو المنـزه عنه، وهو المبرأ عن كل فعل قبيح وقول رفث، فيكون ذلك من خصائصه”.
ونقل الحافظ أقوالاً أخر.
ثم قال: “وأحسن الأجوبة دعوى الخصوصية ولا يردها كونها لا تثبت إلا بدليل؛ لأن الدليل على ذلك واضح، والله أعلم”.
أقول: وأحسن الأقوال بعد الخصوصية والعصمة ما نقله ابن الجوزي، ولا يستبعد اجتماع هذه الأمور.
وأقول: اطلع هذا الرجل على أقوال هؤلاء العلماء فكان الأولى أن يختار قولاً منها ولا سيما العصمة والخصوصية، أو يسلك مسلكاً آخر كأن يذهب إلى ترجيح النصوص الحاظرة أو تقديم الأقوال على هذا الفعل أو يتوقف.
أما أن يجزم بجواز الاختلاط والخلوة والحلق والقص مطلقاً وبدون شروط بل وبدون أدلة ويرمي العلماء أهل الحق بالضلال والتهوك فأمر يرفضه الشرع والعقل.
28- قال الكاتب: ” وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بالبطحاء، فقال: (أحججت)؟ قلت: نعم، قال: (بما أهللت)؟ قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: (أحسنت، انطلق، فطف بالبيت وبالصفا والمروة). ثم أتيت امرأة من نساء بني قيس، ففلت رأسي، ثم أهللت بالحج… الحديث».
قلت: أخرجه البخاري ومسلم، وهذا الفعل من أبي موسى يشعر بأن ذلك أمر لم يكن يستخفى به، بل حدث به دون نكير وفعل أبي موسى -رضي الله عنه- وفهمه يعضد ما تقدم من الرد على من زعم خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك”.
أقول:
1- لقد حملتَ فعل هذا الصحابي الجليل على أسوأ المحامل، فنعوذ بالله أن يُظَنُّ بهذا الصحابي أن يذهب إلى امرأة ليست من محارمه لتفلي رأسه أو لتغسله كما في رواية أخرى.
إنَّ هذا الصحابي الجليل والفقيه النبيل الذي هاجر من بلده إلى الحبشة، وأقام بها مدة، ثم قدم إلى المدينة مع أهل السفينتين بعد فتح خيبر بثلاث، فقسم لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أي بعدما نزل الحجاب، وهو من أهل العلم والعناية به، ولا بد أنه كان قد سمع آيات وأحاديث تحريم النظر إلى النساء وآيات الحجاب، فكيف يظن به وهو التقي الفاضل أن يذهب وهو في الشهر الحرام وفي البلد الحرام إلى امرأة أجنبية لتفلي رأسه مخالفاً بذلك الآيات القرآنية والتوجيهات النبوية.
إن هذا الصحابي الجليل هو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار، وصفه الذهبي بأنه الإمام الكبير وصاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر كثيراً من فضائله.
فهو عبد الله بن قيس الأشعري وذهب إلى امرأة من بني قيس أو بنات قيس، يعني بها أختاً له، أو من بنات أخيه أبناء قيس.
هذا هو اللائق به وهو الظاهر من قوله: من بني أو بنات قيس.
فأعتقد أنه ما قال هذا إلا لإبعاد الشبهة عنه -رضي الله عنه-، وسدّاً لذريعة أوهام من قد يتوهم أنها امرأة أجنبية .
2- ماذا يريد هذا الرجل من قوله : ” وهذا الفعل من أبي موسى يشعر بأن ذلك أمر لم يكن يستخفى به، بل حدَّث به دون نكير “؟
يريد أنَّ أبا موسى يتحدَّث بهذه القصة علانية وفي مجامع الصحابة وهم لا ينكرون عليه أن يذهب إلى امرأة أجنبية لتفلي رأسه ولا ينكرون عليه هذا العمل لأنَّه عمل معروف شائع بينهم لأنَّ الاختلاط في مثل هذه القصة من هديهم !
هذا ما يفيده منهجه وتفسيراته للأحاديث ومنها هذا التفسير الأعمى! الذي يبني من الحبَّة قُبَّة !
لقد روى هذا الحديث عدد من الأئمة منهم : الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو عوانة والنسائي والدارمي وأبو داود الطيالسي والبيهقي كلهم من طريق رجل واحد فقط هو طارق بن شهاب ! ولعلَّ أبا موسى لم يحدث به طارقاً إلاَّ مرَّة واحدة .
فمن أين جاء هذا الكاتب بهذا الفقه أنَّ أبا موسى كان يحدِّث به من غير نكير ؟!
3- قال النووي -رحمه الله- في شرحه لهذا الحديث:
“وقوله : ” ثم أتيت امرأة من بني قيس ففلت رأسي”، هذا محمول على أن هذه المرأة كانت محرماً له”([17]).
فهذا هو اللائق بهذا الصحابي الجليل، بل لو قال هذا غيره من العلماء لوجب حسن الظن به، وحمل قوله على أحسن المحامل وأنزهها.
قال تعالى: (لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً)، [ سورة النور: (12)].
وقال -صلى الله عليه وسلم-: ” إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ، فإن الظَّنَّ أَكْذَبُ الحديث”.
وأنا أعتقد لو أنَّ عربياً جاهلياً لو فعلت زوجته هذا لكانت الفاصلة بينهما فكيف بالصحابة الكرام؟
وأذكر للقارئ الكريم قصة لأبي موسى تدل على شهامته:
روى البخاري([18]) ومسلم([19]) عن أبي بُرْدَةَ عن أبيه قال: لَمَّا فَرَغَ النبي -صلى الله عليه وسلم- من حُنَيْنٍ، بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ على جَيْشٍ إلى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بن الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيْدٌ وَهَزَمَ الله أصحابه، فقال أبو مُوسَى: وَبَعَثَنِي مع أبي عَامِرٍ، قال: فَرُمِيَ أبو عَامِرٍ في رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ رَجُلٌ من بَنِي جُشَمٍ بِسَهْمٍ، فَأَثْبَتَهُ في رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إليه فقلت: يا عَمِّ من رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ أبو عَامِرٍ إلى أبي مُوسَى، فقال: إن ذَاكَ قَاتِلِي، تَرَاهُ ذلك الذي رَمَانِي، قال أبو مُوسَى: فَقَصَدْتُ له فَاعْتَمَدْتُهُ فَلَحِقْتُهُ، فلما رَآنِي وَلَّى عَنِّي ذَاهِبًا، فَاتَّبَعْتُهُ وَجَعَلْتُ أَقُولُ له: ألا تستحي؟ أَلَسْتَ عَرَبِيًّا؟ ألا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ، فَالْتَقَيْتُ أنا وهو، فَاخْتَلَفْنَا أنا وهو ضَرْبَتَيْنِ، فَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ….”.
انظر إلى قوله: ” وَجَعَلْتُ أَقُولُ له: ألا تستحي؟ أَلَسْتَ عَرَبِيًّا؟ ألا تَثْبُتُ؟ فَكَفَّ”.
فمن خصال العروبة الأنفة والشهامة والغيرة على العرض حتى يفدون أعراضهم بالمال والأرواح، وزادهم الإسلام رسوخاً في هذه القِيَم.
والغيرة على النساء محمودة، ولذا قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما عرف الغيرة من سعد بن عبادة: ” والله لَأَنَا أَغْيَرُ منه وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ”.
وأنا أقول لدعاة الاختلاط: ألا تستحون؟ ألستم من العرب الشرفاء؟ ألا تثبتون على الحق والشِيَم الكريمة تجاه الغزو الغربي المدمِّر للدين والأخلاق والقِيَم الإسلامية؟
وقولك: ” وهذا الفعل من أبي موسى يشعر بأن ذلك أمر لم يكن يستخفى به، بل حدث به دون نكير”.
أقول: أعوذ بالله من هذا الفهم، إنَّ الشيطان ليصور لك مجتمع الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه مجتمع متفلت من الأخلاق الرفيعة والقِيَم النـزيهة مثل المجتمعات المنحلّة، فلا غيرة ولا حياء.
ثم إنَّ هذه المرأة لو فرضنا أنها من قيس غيلان مثلاً أكانوا لا يُبَالون أن يأتي رجل أجنبي امرأة منهم في خلوة لتَفْلِي رأسه ؟! ثم لا تكفيه هذه الفعلة النكراء، بل يذهب يتحدث بها هنا وهناك؛ يقول: فعلت كذا وكذا، ثم أتيت امرأة من نساء بني قيس ولا نكير منهم ولا غيرة !.
أنا لا أتصور عربياً مسلماً في ذلك العصر الزاهر يفعل هذا الفعل أو يُقِرُّه ويحتمل هذه الأساليب ولا سيما بعد أن أكرمهم الله بالإسلام ،وتوج هذا الإكرام بشرعية الحجاب، وما يتبعه من حماية الأعراض، لا سيما ما يتصل بالنساء.
29- قال الكاتب: ” وعن أم عطية -رضي الله عنها- قالت: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقرأ علينا: (أن لا يشركن بالله شيئا) ونهانا عن النياحة، فقبضت امرأة يدها فقالت: أسعدتني فلانة، أريد أن أجزيها، فما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم شيئا، فانطلقت ورجعت، فبايعها.
قلت: أخرجه البخاري، وفيه ما يشير لمشروعية مصافحة النساء([20]) من قولها « فقبضت امرأة يدها » ولا صارف يصرف النص عن ظاهره فضلا عما يشهد له من النصوص الأخرى، فحديث أم عطية -رضي الله عنها- يفيد جواز ما هو أكثر من الاختلاط وهي المصافحة.
وهذا لا يعارضه ما روته عائشة -رضي الله عنها- بقولها: «ما مست يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يد امرأة إلا امرأة يملكها»؛ فإن ذلك لا يؤخذ منه تحريم المصافحة؛ لأنه ليس فيه إلا إخبار عائشة -رضي الله عنها -عما رأته وليس فيه نهي ولا نفي لما لم تره، وقد روى ما يدل على مشروعية مصافحة المرأة غير عائشة -رضي الله عنها-، ويشهد لصحة معناه أحاديث أخرى”.
أقول: قولها: ” فقبضت امرأة يدها”، ليس فيه دليل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يصافح النساء إذا بايعهن، فيحمل أنها كانت تظن أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصافح النساء عند البيعة كما هو المعتاد للناس عند عقد البيع والشراء، بل والمعاهدات، فبناء على هذا قبضت يدها توقفاً عن البيعة على حسب تصورها، ولا يُفهم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مد يده إليها ليبايعها فقبضت يدها، فهذا فَهْمٌ رديء يرده واقعه الكريم .
ويَرُدُّه قوله الصحيح: “”إني لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ” .
ويَرُدُّه ما كانت تشاهده أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- وشهدت به أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما كان يصافح النساء ،وتحلف مؤكدة ما تقول، فتقول: “ولا والله ما مَسَّتْ يَدُ رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ”.
وقوله: ” وهذا لا يعارضه ما روته عائشة -رضي الله عنها- بقولها: «ما مست يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يد امرأة إلا امرأة يملكها»؛…الخ.
أقول: بل إن حديث أم عطية لا يعارض حديث عائشة الواضح الصريح في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تمس يده يد امرأة قط، فإن حديث أم عطية ليس نصاً ولا ظاهراً في جواز المصافحة، ولا أن رسول الله صافح أم عطية أو غيرها حاشاه -صلى الله عليه وسلم-، يؤكده الحديث الصحيح الذي رواه ابن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ” إني لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ”، وهو حديث صحيح.
وهذا العمل من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو من هديه الواضح، والذي يخالفه يعتبر مبتدعاً محدثاً في الدين ما ليس منه، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وعدم المصافحة من هديه -صلى الله عليه وسلم- وهدي الخلفاء الراشدين وهدي الصحابة الكرام ومن اتبعهم بإحسان، الذي يجب العض عليه بالنواجذ.
قال تعالى:(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً )،[النساء:( 115 )].
30- قال الكاتب: ” وروي بنحوه عن فاطمة بنت عتبة -رضي الله عنها- ولفظه (فكف النبي -صلى الله عليه وسلم- يده وكفت يدها).
أخرجه الحاكم وصححه الذهبي وحسن إسناده الألباني”.
أقول: في إسناد هذا الحديث المنسوب إلى فاطمة بنت عتبة نظر.
ولا يبعد أن يكون أحد رجال هذا الإسناد – وهو عجلان والد محمد- قد انتقل ذهنه من قصة هند المشهورة المحفوظة إلى فاطمة بنت عتبة.
فقد روى البخاري في “صحيحه” قصة هند في عدد من المواضع، منها في المناقب حديث (3825) عن عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قالت: “جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ، قالت: يا رَسُولَ اللَّهِ ما كان على ظَهْرِ الأرض من أَهْلِ خِبَاءٍ أَحَبُّ إلي أَنْ يَذِلُّوا من أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ ما أَصْبَحَ الْيَوْمَ على ظَهْرِ الأرض أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إلي أَنْ يَعِزُّوا من أَهْلِ خِبَائِكَ، قال: وَأَيْضًا وَالَّذِي نَفْسِي بيده قالت: يا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ من الذي له عِيَالَنَا قال: لَا أُرَاهُ إلا بِالْمَعْرُوفِ”.
ورواه مسلم في “الأقضية” حديث (1714) مكرراً، وأحمد في “مسنده” (6/225)، وأبو عوانة في “مستخرجه” (4/164)، والبيهقي في “الكبرى” (7/66).
1- فالقصة الصحيحة الثابتة إنما هي قصة هند التي اتفق عليها الشيخان.
2-والتي قالت هذا الكلام لرسول الله إنما هي هند، لا أختها.
3- وليس في هذه القصة الصحيحة ذكر لمبايعة هند لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا مبايعة أختها، فضلاً عن مد الأيدي أو كفها.
4-أن هذا الحديث الصحيح الثابت عن هند يدل على وهن رواية محمد بن عجلان عن أبيه، ولعل الواهم هو عجلان والد محمد؛ إذ هو ليس من المشهورين برواية الحديث ولا بالحفظ والضبط، وقد قال فيه النسائي: لا بأس به، ومن هذا حاله لا يؤمن منه الخطأ، فالقصة الصحيحة إنما هي لهند، وهذا الرجل جعلها لفاطمة أختها خطأً منه، وأدخل فيها أبا حذيفة والبيعة.
ولو كان هذا وذاك واقعاً لنُقِل في الحديث الصحيح، ولم يغفل عنه الرواة الحفاظ، وعلى رأسهم عائشة -رضي الله عنها- وعروة والزهري.
5- من عجائب هذا الكاتب:
أن الألباني أورد في “سلسلة الأحاديث الصحيحة” حديث مالك عن محمد بن المنكدر عن أميمة بنت رقيقة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: “إني لا أصافح النساء”، نقله الألباني من “الموطأ” وعن النسائي في “عشرة النساء” من “السنن الكبرى”، وعن ابن حبان وأحمد وعن النسائي في “المجتبى” وعن الترمذي، ونقل عنه قوله في هذا الحديث: حسن صحيح، وأكد الألباني قول الترمذي بقوله: وإسناده صحيح، ونقل له متابعة وحسنها، وذكر شاهداً في إسناده شهر بن حوشب.
ثم أورد حديث فاطمة بنت عتبة عن الحاكم وتصحيح الحاكم والذهبي له، ثم قال: قلت: وإسناده حسن.
ثم قال الألباني: ” وهذا الحديث يؤيد أن المبايعة كانت تقع بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين النساء بمد الأيدي كما تقدم عن الحافظ لا بالمصافحة ، إذ لو وقعت لذكرها الراوي كما هو ظاهر . فلا اختلاف بينه أيضا و بين حديث الباب و الحديث الآتي”.
وساق حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “كان لا يصافح النساء في البيعة”.
أخرجه أحمد (2/213).
ثم قال الألباني: ” وهذا إسناد حسن على ما تقرر عند العلماء من الاحتجاج بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كأحمد و الحميدي والبخاري والترمذي”.
هذا ونفى الألباني التعارض بين حديث أم عطية في البيعة والذي فيه “فقبضت امرأة يدها”، وبين الأحاديث التي فيها أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يصافح النساء.
1- فردّ هذا الكاتب تصحيح الألباني للحديث الصحيح عن مالك عن ابن المنكدر به وعلله بما رأيت، وتجاهل ما له من متابعة وشاهد.
2- وأخذ بتحسينه لحديث فاطمة بنت عتبة مع أن في تحسين الألباني له نظراً كما علمت.
3- ولم يلتفت إلى قول الألباني: ” وهذا الحديث يؤيد أن المبايعة كانت تقع بينه -صلى الله عليه وسلم- وبين النساء بمد الأيدي كما تقدم عن الحافظ لا بالمصافحة”، ولا إلى نفيه المعارضة بين حديث أم عطية وأحاديث عائشة وغيرها في أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يصافح النساء.
فما رأي المنصفين في هذه التصرفات من هذا الكاتب ؟
31- قال الكاتب: “وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كانت الأمة من إماء المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت.
قلت: أخرجه البخاري تعليقا وإسناده صحيح وليس بين الأمة والحرة فرق في ذلك ففيه جواز ما هو أكثر من الاختلاط كالمصافحة ونحوها”.
أقول:
1- لقد استدل العلماء بهذا الحديث على مزيد تواضع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما رواه أنس إلا لبيان تواضعه -صلى الله عليه وسلم-، وما ساقه البخاري إلا لمحاربة الكِبْر وبيان تواضع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
2- يحتمل أن يكون هذا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل فرض الحجاب.
3- وإذا كان بعد الحجاب فلا حجة فيه لدعاة الاختلاط، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معصوم، فلا يقاس عليه أفاضل الصحابة فضلاً عن غيرهم.
4- ويقال بعد هذا وذاك: إن هذا من خصوصيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يؤكد هذا أن الصحابة رضي الله عنهم وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون ما فعلوا مثل هذا.
32- قال الكاتب: ” وعن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها-، قالت: تزوجني الزبير، وما له من الأرض من مال ولا مملوك… الحديث بطوله، وفيه، قالت: (لقيني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه، فأناخ لأركب معه).
قلت: أخرجه البخاري ومسلم.
وفي لفظ آخر (… فلقيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه نفر من الأنصار فدعاني ثم قال «إخ إخ» ليحملني خلفه، فاستحييت أن أسير مع الرجال، وذكرت الزبير وغيرته وكان أغير الناس، فعرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أني استحييت فمضى، فجئت الزبير فقلت لقيني النبي -صلى الله عليه وسلم- وعلى رأسي النوى، ومعه نفر من أصحابه فأناخ لأركب فاستحييت منه، وعرفت غيرتك. فقال: والله لحملك النوى كان أشد علي من ركوبك معه. قالت: حتى أرسل إلي أبو بكر بعد ذلك بخادم تكفيني سياسة الفرس فكأنما أعتقني).
قلت: أخرجه البخاري، وفيه جواز إرداف المرأة وهو يفيد جواز ما هو أكثر من الاختلاط كالإرداف والمصافحة ونحوها وهو على ملأ من الصحابة ولم يخصص نفسه عليه السلام بذلك”.
أقول:
عياذاً بالله من هذا الفهم.
يقول: ” وفيه جواز إرداف المرأة وهو يفيد جواز ما هو أكثر من الاختلاط كالإرداف والمصافحة ونحوها”.
ولا ندري إلى أين يصل هذا النحو ؟!
وأقول: الحديث لا يدل على شيء مما ذكرت ولا نحوه كالمضاحكة والمعانقة ونحوها.
1- لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ما زاد على قوله: «إخ إخ»، فيجوز أنه أراد أن تركب راحلته بمفردها كما يفعل أولو المروءة والشهامة، ويركب هو دابة أخرى أو مع أحد أصحابه ومثل هذا العمل الشريف يفعله من هو دون الرسول صلى الله عليه وسلم بل من دون كبار أصحابه فهذا عثمان بن طلحة العبدري قبل أن يسلم -رضي الله عنه- عامل أم سلمة -رضي الله عنها- لما هاجرت معاملة شريفة في نهاية الشرف .
حكت أم سلمة أن زوجها أبا سلمة أراد أن يهاجر بها إلى المدينة فاعترضه بنو المغيرة فحبسوها عن الهجرة معه، ثم أشفقوا عليها، فأذنوا لها بالهجرة، فخرجت مهاجرة، حتى إذا كانت بالتنعيم قالت : ” لقيت عثمان بن طلحة أخا بني عبد الدار، فقال: أين يا بنت أبي أمية ؟ قلت : أريد زوجي بالمدينة، فقال: هل معك أحد ؟ فقلت : لا والله إلا الله وابني هذا ،فقال : والله مالك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يقودني فوالله ما صحبت رجلاً من العرب أراه كان أكرم منه إذا نزل المنـزل أناخ بي، ثم تنحى إلى شجرة فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري قدمه ورحله، ثم استأخر عني وقال: اركبي، فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه فقادني حتى نزلت، فلم يزل يصنع ذلك حتى قدم بي المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء قال: إن زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة نازلاً بها .
وقيل: إنها أول امرأة خرجت مهاجرة إلى الحبشة، وأول ظعينة دخلت المدينة ” انظر “الإصابة” (4/439-440).
وكما عامل صفوان بن المعطل عائشة -رضي الله عنهما- فقد ذكرت -رضي الله عنها- في قصتها الطويلة أنَّها فقدت عقدها وذهبت تتفقده : ” فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ يَدَهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُعَرِّسِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الْإِفْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ “ ([21])
وهكذا يفعل الشرفاء النبلاء ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشرف الشرفاء وأنبل النبلاء فلنعامل أحاديثه وأصحابه معاملة الشرفاء النبلاء .
2- لو فرضنا أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يردفها خلفه فهو معصوم -صلى الله عليه وسلم-، فلا يقاس عليه غيره، ولو كانت الأمور التي جَوَّزْتَها جائزة لفعل ذلك الصحابة وغيرهم ولامتلأت بذلك الدواوين وخاصة من يفقهون مثل فقه دعاة الاختلاط !
3- يجوز أن هذه الحادثة كانت قبل نزول الحجاب.
وإذا كنت تعجز عن تصور مثل هذه الأمور اللائقة برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام رضي الله عنهم والتي يتصورها أهل العلم والنبل فإن من أوجب الواجبات عليك أن تبتعد عن تحميل الأحاديث النبوية ما لا تحتمل.
4- من كلام الحافظ على هذا الحديث: “…فيحتمل أن يكون -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يركبها وما معها ويركب هو شيئا آخر غير ذلك”.
وقال مرة أخرى: “والذي يظهر أن القصة كانت قبل نزول الحجاب ومشروعيته، وقد قالت عائشة كما تقدم في تفسير “سورة النور” لما نزلت (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) : ( أخذن أزرهن من قبل الحواشي فشققنهن فاختمرن بها ).
ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب” اهـ كلام الحافظ ([22]).
أقول: هكذا يتعامل العلماء مع النصوص النبوية.
ثم أقول: وهذا العمل الشريف من نساء المؤمنين إنما هو امتثال لقول الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور : (31 )].
فليعمل النساء الشريفات القائم على امتثال أمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وليدعُ إليه الشرفاء من الرجال علماء وغيرهم .
والله أعلم وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم .
وكتب
ربيع بن هادي بن عمير المدخلي
في 29 ربيع الأوَّل لعام 1431
من هجرة المصطفى
صلى الله عليه وسلم
… وتتبعه الحلقة الثالثة بإذن الله تعالى .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – أخرجه مسلم في “اللعان” حديث (1499).
[2] – أخرجه البخاري في “النكاح” حديث (5227)، ومسلم في “فضائل الصحابة”حديث (2395).
[3] – أخرجه البخاري في “النكاح” حديث (5224)، ومسلم في “السلام” حديث (2182).
[4] – عبارته: ” ولم يتأملوا أدلة جوازه، ولم يقتفوا هدي المجتمع النبوي فيه، وهو قدوتنا في امتثال التشريع في كل شؤون الحياة المختلفة”.
[5] – (3/79).
[6] – (2/275-276).
[7] – (5/257).
[8] – أخرجه البخاري في “الأشربة” حديث (5590).
[9] – ثقة، حافظ.
[10] – حافظ إمام، انظر “تذكرة الحفاظ” (2/703).
[11] – أي طريقة العرب في الحداء، الذي ليس فيه تغنج ولا تكسُّر بل فيه الرجولة والحث عليها.
[12] – انظر “الإيجاز في شرح سنن أبي داود” (ص224).
[13] – انظر (ص43) الفقرة (18).
[14] – أخرجه البخاري في “التفسير”حديث (4750).
[15] – (14/155).
[16] – هذا المذهب يقتضي أن يفتح النساء محلات للرجال للفلي والحلاقة والقص وغير ذلك.
[17] -“شرح صحيح مسلم” (8/199).
[18] – في باب “غزوة أوطاس” حديث (4323).
[19] – باب “من فضائل أبي موسى وأبي عامر الأشعريين –رضي الله عنهما-” حديث (2498).
[20] – فهل صارت مصافحة الرجال للنساء أمراً مشروعاً مستحباً عند الله وعند رسوله والمؤمنين؟!
([21]) أخرجه البخاري (2661).
([22]) فتح الباري ( 9/235-236).