من قال بأنّه أقلّ منه تدليسا؟ ثم الذين يدلّس عنهم حميد الطويل هما اثنان إمّا ثابت وإمّا قتادة وهما ثقتان, ومن هنا رجّحوه على أبي الزبير, و أبو الزبير من الثقات – إن شاء الله – و لا نطعن فيما رواه مسلم عنه ولو كان بالعنعنة, لأنّ بعض النّاس يقول أبو الزبير مدلّس وإذا وجدنا له أيّ تدليس في مسلم أو غيره فلابدّ أن نحكم عليه بالضعف لأنّه مدلس و قد عنعن إلاّ رواية اللّيث عنه وهذه النّظريّة فيها خطأ فإنّ صحيح مسلماً له مزايا:
المزيّة الأولى: أنّ الأمّة تلقته بالقبول وعلى رأسهم أئمّة الجرح والتّعديل, وقد انتقدوا أحاديث معروفة أصابوا في نقدهم وأخطأوا في نفس الوقت, قد يكون النّاقد مثل الدارقطني وأبو مسعود الدمشقي وغيرهم, و أبو علي الغسّاني الجيّاني قد يصيب وقد يخطئ انتقدوا الصحيحين البخاري و مسلم – رحمهم الله تعالى -.
لكنّ الغالب أنّ الحق مع الشيخين, لأنّهما أعلم بالحديث ممن انتقدهم وأكثر تحريًا و التزاما.
الشاهد: أنّ الأحاديث التي لم ينتقدها أحد من أئمّة النّقد المذكورين مثل أحاديث أبي الزبير – رحمه الله – فلا ننتقدها لأنّ الأمّة تلقّتها بالقبول وأئمّة النّقد لم ينتقدوها -رحمهم الله -.
الميزة الثانية: أنّ الشيخين التزما الصحة فيما يوردانه في صحيحيهما – رحمهما الله – و انتقيا هذه الأحاديث الموجودة فيها التي ترجع إلى أربعة آلاف، أربعة آلاف – تقريبا – طبعاً مسلم يعدِّد الطرق, والبخاري يكرر, يعني بكثرة الأسانيد تصل الأربعة آلاف هذه إلى اثني عشر ألف في صحيح مسلم والأربعة آلاف في البخاري تصل إلى سبعة آلاف وشيء -يعني بالتّكرار- بارك الله فيكم.
فالتزما الصحة في هذه الأحاديث وانتقيا من مئات الآلاف من الأحاديث, وصرّحا بالتزامهما بالصحة, مسلم لمّا كان يكتب في صحيحه وجاء إلى حديث أبي موسى- رضي الله عنه- وقد روي من طرق في كيفية صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم وفيه: “وإذا قرأ فأنصتوا” قال له ابن أخت أبي النّضر: هذا الحديث قد قيل فيه أو كلاماً نحو هذا, فقال مسلم: هو عندي صحيح أتريد أحفظ من سليمان يعني سليمان التيمي؟ لأنّ طريق سليمان التيمي عن قتادة هي المنتقدة, قال له أتريد أحفظ من سليمان؟ قال له: فحديث أبي هريرة: “إذا قرأ فأنصتوا”, قال: صحيح, قال له: لماذا لم تضعه هنا في كتابك أو نحو هذا, قال لم أضع في كتابي هذا إلاّ ما أجمعوا عليه.
هو لا يتحرى الصحيح فقط, فحديث أبي هريرة صحيح ومع ذلك لم يدخله في كتابه لماذا؟ لأنّه يتحرى الأصح وقد يُخطئ أحيانا – رحمه الله – .
وقد بيَّن مسلم منهجه فيما يُورده في هذا الكتاب.
واعلموا أنَّ الله قد ضمن حفظ هذا الدِّين فقال سبحانه: ( إنّا نحن نزّلنا الذّكر و إنّا له لحافظون ) ، فما من إنسان يكذب على رسول الله أو يخطئ, لابدّ أن يُبيَّنَ هذا الخطأ.
ومن هذا المنطلق, منطلق الِحفاظ على سنة رسول الله ألّف أئمّة النّقد كتب العلل وانتقدوا الرّواة وانتقدوا الأحاديث – رضوان الله تعالى عليهم – نصحا لله تبارك وتعالى تعالى وحرصاً على أن لا ينسب إلى الله ثمّ إلى رسوله إلاّ ما يثبت, ولم يستثنوا حتّى الإمامين الجليلين البخاري ومسلم – رحمهم الله – .
ولكن هؤلاء المجتهدون النّقاد الذين انتقدوا الصحيحين منهم من يصيب ومنهم من يخطئ فقد يهيِّئ الله لهم الصواب وقد لا يتهيّأ لهم ذلك.
وقد ناقشهم أئمّة الحديث فيما ناقشوا فيه الإمامين, حتّى إنّ الإمام ابن تيمية – رحمه الله – تتبّع هذه الانتقادات وقال: لم يصيبوا فيما انتقدوا فيه البخاري إلاّ أربعة أحاديث بل الصواب معه, رأيتم – بارك الله فيكم -.
و أمّا مسلم – رحمه الله – قال: فيه خطأ بعض الكلمات وبعض العبارات وانتقد أحاديث صلاة الكسوف وقال فيها خطأ, بعضهم قال في ركعتين ست ركوعات فخالفوا الأحاديث الثابتة, مثل حديث عائشة وابن عبّاس وغيرهما في صلاة الكسوف خالفوا وغلط بعض الرواة وقال إنّ الرسول – صلى الله عليه و سلم – ركع فيها في ركعتين ست ركوعات, و إنّما هي أربع ركوعات في كلّ ركعة ركوعان وذكر بعض الأحاديث – بارك الله فيكم – .
أنا كما تعرفون ناقشت الدار قطني في كتابي (بين الإمامين) -رحم الله الجميع – وكان الصواب حليفا لمسلم في معظم انتقادات الدارقطني -رحمه الله- وبقيت لي من حوالي مائة حديث ثمانية أحاديث وأتمنّى إلى الآن أن ينشط أحد طلاب العلم الأقوياء أن يدرسها من جديد لأني أنا حرصت في دراستي على الدفاع عن مسلم لا بالتعصب و إنّما بالأدلة والبراهين.
والخلاصة فيها: أنّ بعض النّقد يتجه إلى إسناد معيّن ويكون للحديث أسانيد أُخَرْ في نفس صحيح مسلم وفي البخاري و غيرهما, فهذا النقد مُوَجَّه للإسناد فقط لا يُؤثِّر على الحديث بل يبقى الحديث صحيحاً وقد يكون متواتراً – بارك الله فيكم – .
وبعض النقد إذا كان ليس للحديث إلاّ إسناد واحد وانصبّ عليه النقد فإنّه قد يكون الحديث ضعيفاً وهذا نادر جدّا وأغلب الانتقادات إنّما هي موجهة لبعض الأسانيد, وراجعوا الخلاصة فيه في كتابي (بين الإمامين).
كذلك النووي ناقش الدارقطني, وأبو مسعود وإن كان ينتقد مسلماً لكنّه قد يناقش الدارقطني – أحياناً -, الحافظ ابن حجر دافع عما يخص الإمام البخاري – رحمهم الله جميعا-.
[لقاء حديثي منهجي مع بعض طلاب العلم بمكّة]